كتب وسام سعادة في صحيفة “المستقبل”:
الأمور بتوازنها. بعد الحرب كانت ثمّة حاجة لإعادة تشكيل الوحدة الوطنية من خلال مناخ متكامل من المصالحات والمصارحات وإعادة تشكيل منظومة القيم، فحدث أن استُهزئ بكل هذه الورشة الذهنية والسياسية والأخلاقية، وجرى التظاهر بالتعصب لمبدأ الوحدة الوطنية منحى عن مضامينه وشروطه، فمسخت “الوحدة الوطنية” بعد تجويفها الى “انصهار وطني” كان البوابة الى الاعتباط والاستنسابية والكيدية، وكله برعاية الوصاية السورية وأدواتها. وباسم “قانون انتخابي يحقق الانصهار الوطني” جرى التضييق على صحة تمثيل المكوّنات الاهلية والسياسية اللبنانية. وهكذا تحوّلت “صحّة التمثيل” الى عبارة ذات مضمون سياسي له مغزى في مواجهة مقولة “الانصهار” المدارة من لدن الوصاية.
لكن، كما في كل شيء، “الزايد خي الناقص”. صحّة التمثيل مقولة تصويبية للمسار الانتخابي، لكنها ليست مقولة كافية ذاتها بذاتها. ليس صحيحاً انه يمكن ان ترمي نرد “صحة التمثيل” فوق طاولة تخص بلداً ما، فتستنتج رأساً قانوناً انتخابياً يكفلها. صحّة التمثيل مفصولة عن المعايير الديموقراطية الأخرى، من التداول على السلطة، الى توسيع القاعدة الاجتماعية للديموقراطية الانتخابية، الى مشاركة الفئات المستضعفة في المجتمع، الى تداول الأجيال، الى التوازن بين حقوق الأفراد وحقوق الجماعات.
وبتنصيب معيار “صحة التمثيل” فوق كل اعتبار آخر، وعزلها عن سياق التجربة السياسية اللبنانية ككل، صرنا الى “صحة تمثيل” مشروطة بالزغل: صحة تمثيل “تغض الطرف” عن انعدام التوازن، انعدام التوازن بين ناخب وبين ناخب آخر، بين تمثّل مجموعة وتمثّل أخرى، مرة تحذف العدد باسم التعدد، ومرة تحذف التعدد باسم العدد. والأهم أنها “صحة تمثيل” تتعامل مع الأحجام السياسية كما لو ان قدرها ان تكون ثابتة لا تتبدّل وعلى القانون الانتخابي التقاط صورة فوتوغرافية لها كما هي، وليس ان الاحجام تتعرض لاختبار ما قبل الانتخابات نفسها، في سياق الحملة الانتخابية. فتخيل مثلا لو اعتمد هذا المنظار في الاستحقاقات التشريعية او الرئاسية في ديموقراطيات العالم. هذا سيعني اولاً ان القوى في غنى عن محاولة اجتذاب شرائج جديدة، وانها مكتفية بـ “زلمها” تريد ان تمثلهم بشكل صحيح.
“صحة التمثيل” معيار المعايير في الانتخابات، لكنه ليس معياراً كافياً ذاته بذاته. التبشير به بهذا الشكل المطلق، ثم محاولة البحث عن اطار تطبيقي له يرضي جميع الاطراف، والترقيع هنا وهناك لأجل تأمين ذلك، يقلب هذا المعيار على رأسه.
وأدهى من كل هذا، انعدام الاكتراث في النادي السياسي من كل الرأي الأكاديمي والسياسي الداعي الى الدائرة الفردية، مع انها تعطي حافزاً لمزاوجة صحة التمثيل مع صحة المنافسة، وصحة المنافسة مع الحيوية التداولية على التمثيل، وبالتالي على السلطة، وكذلك بالنسبة الى مبدأ الصوت الواحد للناخب الواحد ولو كان على صعيد الأقضية.
لا مشكلة ان توصل هذا النادي السياسي اليوم لاي قانون انتخاب، ولو كان موقتاً، لمرة واحدة عملياً. لكن المشكلة عندما يظهر ان هذا التجويف الاصطلاحي حول “صحة التمثيل”، ورغم كل الترقيع الذي يفضي اليه، يبدو أن الطريق غير مفتوحة أمامه لتجاوز القطوع. فإذا كانت هذه الحال حقاً، صارت اعادة النظر بالاسلوب الذي يجري فيه فرض مقولة “صحة التمثيل” بشكل استبعادي للوازم الديموقراطية الانتخابية العديدة الاخرى امراً لا بد منه. التمثيل يزيد وينقص، مروحة التمثيل تتسع او تنحسر. لكن المهم دائماً ان يكون اتساعها فيه شيء من التوازن: لا تتسع بشكل يزيد تسليط الضوء على اوجه بعينها من سوء التمثيل فتكون النتيجة سوء تمثيل في المقلب الآخر.
المواطنون الناخبون متساوون في حقهم الانتخابي، والطوائف وقائع لبنانية اساسية لا بد ان يكون النواب في المجلس يمثلون امزجة هذه الطوائف الى حد كبير. بين هاتين القاعدتين ثمة مسافة، لكن ثمة ايضاً ضرورة واقعية وعملية للموازنة والمزاوجة. وأساساً ما المناصفة؟ المناصفة القابلة للعيش، وليست تلك المفخخة بنقائضها؟ انها تسوية، تسوية بين وجوب المساواة بين الافراد وبين وجوب العدالة بين الطوائف، والمشكلة تبدأ دائماً حين يساء الى هذا الشرط كما الى ذاك.