كتبت رلى إبراهيم في صحيفة “الأخبار”:
تبرع الأحزاب السياسية في قلب الذهب تراباً عند اجتماعها في صالة واحدة. بِلَمسة سحرية، أُخرجت النسبية من قالبها الديموقراطي لتتحول إلى مفهوم يفوق الاقتراع الأكثري سوءاً وظلماً. في ما يلي تفنيد مفصل للنسخة الأخيرة من القانون المختلط الذي بحثته اللجنة الرباعية، قبل أن يسقط أمام بدعة جديدة ظهرت أمس.
من الطبيعي جداً أن تلهث القوى السياسية لحياكة تفاصيل قانون الانتخابات بما يضمن نفخ حجمها والاستيلاء على ما توافر من المقاعد الإضافية والأرباح السهلة. ومن الطبيعي تالياً أن تأتي عصارة مناقشات اللجنة الانتخابية المشكّلة من نواب حزبيين بمشروع قانون مختلط أسوأ من الستين في مخالفته لأدنى القواعد التقنية وعدم مراعاته للأقليات والأحزاب الصغيرة والمرشحين المستقلين. فليست هي المرة الأولى التي ترفض فيها أحزاب الطوائف إقرار قانون ديموقراطي يراعي النسبية الكاملة، أو أقله يعتمد معايير موحدة، بحيث يرفع سطوتها عن بعض المقاعد ويمنع احتكارها لمقاعد طائفة بكاملها. إلا أن الاستثناء هذه المرة كان في إصرار رئيس الجمهورية ميشال عون على إقرار قانون انتخابي يصحح التمثيل، كما جاء في خطاب القسم، والآمال التي رتبها البعض على جلوس التيار الوطني الحر بنحو رئيسي إلى طاولة القوانين المطروحة.
ويقود ذلك إلى خلاصة واحدة تؤكد أن حبل الخلاص الأوحد يكمن باعتماد النسبية الكاملة على أساس دائرة واحدة أو عدة دوائر كبرى، بما يضمن عدم قدرة أي حزب أو فريق على التلاعب بالنتائج وقولبتها وفقاً لأهوائه. وهو ما يتطلب موقفاً حاسماً من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، المؤتمن على الدستور وعلى تأمين المساواة بين جميع الأفراد والطوائف، والحرص على تصحيح تمثيلها جميعها.
في ما يأتي، إضاءة مفصّلة على التلاعب الفادح في المعايير المعتمدة في المشروع المختلط الذي سُرّب الأسبوع الماضي. تضم دائرة الجنوب، بحسب ما نصّ عليه مشروع القانون المختلط، أقضية صيدا والزهراني وجزين وصور. وبما أن “المعيار” المعتمد يقضي بأن يُنتخب بالنظام الأكثري النواب المنتمون إلى مذهب يشكّل أبناؤه أكثر من 65 في المئة من ناخبي القضاء، أبقي على المقعدين السنيين في صيدا وعلى ثلاثة مقاعد للطائفة الشيعية في صور والمقعدين الشيعيين في الزهراني ومقاعد جزين الثلاثة للاقتراع وفق “الأكثري”. فيما اقتصرت النسبية على مقعدين، المقعد الشيعي الرابع في صور ومقعد الروم الكاثوليك في الزهراني. وإذا ما احتسبنا المعدل الذي يجدر بلائحة الحصول عليه للفوز بمقعد من المقعدين النسبيين، تكون الحصيلة نحو 105 آلاف صوت، لأن أصوات المقترعين في هذه الدائرة ستفوق 210 آلاف مقترع. ما يعني أن أي لائحة لا يدعمها حزب الله وحركة أمل لن تتمكّن من الفوز بأيّ من المقعدين اللذين سيُنتخبان بالنسبية. وهنا تطرح إشكالية عدم جدوى النسبية المعتمدة على مقعدين في دائرة تنتمي أكثرية ناخبيها إلى خيار سياسي وحد، فتتحوّل النسبية إلى أكثرية مبالغ بها. وبالتالي كان من الأجدى ترك المقعدين على الأساس الأكثري، لأن النتائج ستكون مماثلة في الحالتين ومطابقة لنتيجة قانون الستين.
الثغرة الثانية تتمثل في اقتراع بعض الناخبين الجنوبيين مرتين، مرة على أساس أكثري في دائرتهم، ومرة على أساس نسبي في المحافظة. فالصيداويون ــ على سبيل المثال ــ يقترعون في صندوق لمقعدين في دائرتهم، حيث ينتخبون وحدهم نائبيهم، وفي صندوق ثانٍ لاختيار النائب الشيعي في صور والكاثوليكي في الزهراني! فيما لا يمتلك ناخبو صور والزهراني ترف المشاركة في اختيار نواب صيدا. وكذلك الأمر في جزين. ويكاد وضع المرشح الكاثوليكي في الزهراني يثير الضحك. ففعلياً كل ناخبي الدوائر من مختلف الطوائف “يبلّون” يدهم فيه، بينما لا يؤثر صوته على مقعده ولا على المقعد الشيعي في دائرته بطبيعة الحال الذي، بالمناسبة، ينتخبه أهالي الزهراني فقط. هكذا، عُرّيت النسبية وشوّهت بعد تعدّد المعايير. ولكن لا همّ، ستقترع صيدا وفقاً لقانون الستين بما يضمن استمرار احتكار تيار المستقبل لمقعديها، فيما لا ناقة ولا جمل لطائفة الروم الكاثوليك في مقعد مرشحها الذي يرفع معدّو هذا القانون لواء “تحرير المقاعد المسيحية” عبره.
العلويون في طرابلس وعكار: استحالة التمثيل
تضم دائرة الشمال كلّاً من طرابلس والمنية ــ الضنية وزغرتا وبشري والكورة والبترون. اقتضت قواعد القانون أن يبقى 16 مقعداً على الأكثري في دوائر قانون الستين، و5 مقاعد على النسبي في طرابلس وحدها (2 سني، 1 علوي، 1 ماروني و1 أرثوذكس)، لكن سيقترع لهم أبناء طرابلس وأبناء الأقضية الأخرى. فمثلاً، يقترع ابن زغرتا وابن الكورة وابن البترون وابن المنية وابن بشري مرة في قضائه وفق النظام الأكثري (تماماً كما في قانون الستين)، وفي صندوق آخر، سينتخبون بالنسبية نواب طرابلس الخمسة. وهنا أيضاً، لا يمكن ابن طرابلس المشاركة في اختيار ممثلي الأقضية الأخرى في الدائرة، لينحصر صوته في انتخاب نواب مدينته. مجموع المقترعين التقريبي في هذه الدائرة سيفوق الـ245 ألفاً، ما يجعل الحاصل الانتخابي المطلوب لنجاح أي مرشح على أساس النسبي نحو 50 ألفاً. وبذلك يُحرم العلويون اختيار ممثلهم اليتيم، حيث سيقترع منهم أقل من 15 ألفاً في أحسن الأحوال، ما يُبقي قرار تمثيلهم في يد الخصوم السياسيين لغالبيتهم، وفي يد المنتمين إلى طوائف أخرى ودوائر أخرى على حدّ سواء. وهو ما ينسحب أيضاً على المقعد العلوي في عكار، حيث سيقترع أكثر من 130 ألفاً! والنتيجة، لا يمكن العلويين تصحيح تمثيلهم الذي يقتصر على مقعدين اثنين في كل لبنان، لأنهم لا يملكون ترف تغيير المعايير المعتمدة. ومجدداً تفشل نظرية “تصحيح التمثيل” في “تحرير” المقعدين الماروني والأرثوذكسي في طرابلس لعدم توافر الأصوات الكافية لإنجاحهما، الأمر الذي يبقي قرار هذين المقعدين بيد تيار المستقبل، كما هي الحال في الستين. يزداد الوضع سوءاً في عكار مع وضع 5 مقاعد على النسبية (1 سني/1 علوي/ 1 ماروني/ 2 أرثوذكس) ما يجعل الحاصل الانتخابي المطلوب لنجاح أي مرشح نحو 26 ألفاً، وهو ما يجعل غالبية مقاعد النسبية في يد تيار المستقبل.
ناخبو بيروت “بسمنة” و”زيت”
في محافظة بيروت، جرى تدجين المعايير وزمّها لتتناسب مع مصالح تيار المستقبل. ففي بيروت الثالثة، لا يصل عدد ناخبي الطائفة السنية إلى 66.66% من العدد الإجمالي للناخبين. وكان ينبغي أن تُرحّل كل مقاعد الدائرة إلى النظام النسبي. لكن اعتراض تيار المستقبل عدّل المعيار، فصار 65 في المئة، لكي تبقى غالبية المقاعد السنية خاضعة للانتخاب الأكثري.
في المحصلة، أُبقيت 4 مقاعد سنية، من أصل خمسة، على أساس الاقتراع الأكثري. وبالطريقة نفسها، شُطِبت كل القواعد مراعاةً لقلق الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط، بعدم قدرته على التأثير في هوية المرشح الدرزي في بيروت الثالثة، فنُقِل من النسبي إلى الأكثري بسحر ساحر. وهكذا يمكن جنبلاط التحالف مع الحريري كما في الستين لإبقاء المقعد الدرزي في كتلة المختارة. وانتقل مقعد سني واحد والمقاعد الشيعي والإنجيلي والأقليات والأرثوذكس، التي سيشارك في الاقتراع للمرشحين عليها ناخبو دوائر بيروت الثلاثة، بعكس المقاعد الأكثرية. في بيروت الثانية، رُحّلت المقاعد جميعها إلى الاقتراع النسبي بما يتناسب مع الواقع (1 شيعي، 1 سني، 2 أرمن أرثوذكس)، فيما بقيت كل مقاعد بيروت الأولى أي الأشرفية ــ الرميل ــ المدور على أساس أكثري (1كاثوليك،1 أرثوذكس، 1 ماروني، 1 أرمن أرثوذكس، 1 أرمن كاثوليك)، ما يُحبط النتائج التي سجّلتها هذه الدائرة في الانتخابات البلدية لحساب لائحة “بيروت مدينتي”. واللافت أن هذا القانون يقسم الناخبين إلى فئتين: “بسمنة” أو “بزيت”. فابن الأشرفية وابن بيروت الثالثة سينتخبان مرتين: في صندوق أكثري حيث لا يتدخل أحد في اختيار نواب دائرته، وفي صندوق النسبية حيث يتدخل هو في اختيار مرشحي بيروت الثانية وبعض مرشحي بيروت الثالثة. في الوقت الذي يشارك كل أبناء العاصمة في اختيار نواب الدائرة الثانية. ولا تفسير لدى أي من القوى المشاركة في إعداد هذا القانون لعدم المساواة بين الناخبين في الحقوق والواجبات والتمثيل الديموقراطي.
جنبلاط يتحدّى القانون
لم تقتصر معركة جنبلاط على المقعد الدرزي في بيروت الثالثة. فما يصحّ في العاصمة يصحّ في الشوف وعاليه والبقاع الغربي بطبيعة الحال. وهو ما أدى إلى كسر النسبية احتراماً لأهواء البيك، فأُبقيَ النظام الأكثري سارياً على مقعدين درزيين في الشوف وعاليه، سعياً لإرضاء الاشتراكي. علماً أن القاعدة المعدّلة تقول بضرورة مطابقة عدد ناخبي الطائفة لنسبة الـ65% حتى تتمتع بالنظام الأكثري، وهو ما يتنافى مع وضع الدروز في كل المحافظات، حيث يفترض أن توضع جميع المقاعد على النسبية. وحفظاً لماء الوجه، وُضع مقعدان درزيان في كل من الشوف وعاليه على النسبية، حيث يفترض بجنبلاط عقد صفقة سهلة مع تيار المستقبل لابقائهما تحت عباءته. ويجدر التذكير هنا بأن طلبات البيك أوامر، لذلك كانت الشوف وعاليه دائرة واحدة منفصلة عن قضاء بعبدا الذي ضمّ إلى محافظة جبل لبنان الشمالي ووضع مقعده الدرزي على النسبية. لماذا؟ لأن لا قدرة لجنبلاط على الفوز به حيث لا حلفاء أقوياء له. أما في البقاع الغربي ــ راشيا، فاقتضى النظام أن توضع كل المقاعد على النسبية… إلا الدرزي!
جبل لبنان الشمالي… منفصم المعايير
لا يمكن المتصفح لكيفية تقسيم مقاعد جبل لبنان الشمالي ما بين أكثري ونسبي إلا أن يصاب بالانفصام. ويمكن تخيل المعدّين يلعبون ويغمض بعضهم أعين بعض لتقسيم المقاعد ما بين أكثري ونسبي. ففعلياً، لا أحد يعرف لماذا وضعت مقاعد بعبدا الستة على النسبية، فيما أبقيت مقاعد المتن الشمالي الثمانية جميعها وفق النظام الأكثري. لكن المعيار غير المفهوم هنا، مبني على اعتبار جميع المسيحيين أبناء مذهاب واحد، فيما المسلمون ينتمون إلى 4 مذاهب: سني وشيعي ودرزي وعلوي. لكن ذلك لا يفسّر كيف يمكن وضع 4 مقاعد مارونية في كسروان على الأكثري وفرز مقعد خامس على النسبية. أما في جبيل، فالمارونيان ينتخبان بالنظام الأكثري والشيعي بالنظام النسبي. لا حاجة هنا لذكر مدى الظلم اللاحق بابن بعبدا الذي سيتدخل في مصيره كل ناخبي جبل لبنان الشمالي الذين سيقترعون مرتين، فيما هو سيقترع مرة واحدة ويتفرج على باقي الناخبين.
البقاع أفضل الموجود
لولا استثناء المقعد الدرزي في البقاع الغربي ــ راشيا لكانت دائرة البقاع (تضم البقاع الغربي وراشيا وزحلة) لتكون من بين أفضل المحافظات في هذا القانون وأكثرها قرباً من المعايير المهنية. ففي البقاع الغربي راشيا 5 مقاعد (2 سني، 1 شيعي، 1 ماروني، 1 أرثوذكس) من أصل 6 على النسبية، وفي زحلة 7 مقاعد من أصل 7 على النسبية بما يتيح للأحزاب الصغيرة والقوى المستقلة المشاركة في تمثيل الدائرة. لكن تجدر الإشارة هنا إلى تفاوت المعايير على سبيل المثال ما بين البقاع والجنوب، اذ من غير المنطقي أن يقترع مواطن لمقعدين على النسبية في الجنوب فيما يقترع جاره لـ 12 مقعداً نسبياً في البقاع، ولا يمكن أيضاً أن يقترع الجنوبي لعشرة مرشحين على أساس أكثري فيما يقترع البقاعي لواحد! فيما على المقلب الآخر بلغ حدّ التفاوت أن يوضع مقعد واحد على الأكثري في البقاع و16 في شمال لبنان!