كتب بروفسور جاسم عجاقة في صحيفة “الجمهورية”:
ممّا لا شكّ فيه أنّ العراك السياسي على القانون الإنتخابي وما آل إليه الاقتراح الأخير يُعيد إلى الذاكرة سياسة التعطيل التي تمّ اتّباعها في المرحلة السابقة. هذا الأمر له تداعيات على كلفة الدين العام، وقد يؤدي إلى أزمّة مالية حادة في حال لم يتمّ اتخاذ الإجراءات المُناسبة.ترتكز الاقتصادات المُتطوّرة بالدرجة الأولى على الأسواق المالية، إن من ناحية التمّويل أو من ناحية التحوّط على الديون (Risk Hedging & Mitigation).
وتُعتبر إصدارات الخزينة الأداة الأساسية التي تتموّل من خلالها الحكومات، إن لناحية دفع أجور القطاع العام أو استحقاقات الدين العام أو حتى تمّويل المشاريع الإستثمارية.
هذا الأمر يفرض على المُستثّمر (أي شاري السندات) التأكّد من أنه سيستعيد أمواله عند استحقاق هذه السندات. وتنصّ القواعد المالية على أنّ البلدان التي يَعتريها خلل في ماليتها العامّة، تدفع فوائد عالية على هذه السندات تحت طائلة عدم القدرة على بيعها.
وهنا تظهر أهميّة التصنيف الإئتماني الذي تقوم به وكالات التصنيف الإئتماني لتصنيف الدول بحسب قدرتها على سدّ ديونها لكي يتمكّن المُستثمر من تقييم المخاطر التي يتعرّض لها جرّاء شرائه هذه السندات.
إرتفاع نسبة المخاطر التي قد تطال المالية العامّة يدفع المُستثمر في بعض الأحيان إلى شراء تأمين على هذه السندات بواسطة أدوات مالية تُسمّى بالـ Credit Default Swap (CDS). هذه الأدوات هي عبارة عن بوليصة تأمين تُشبه إلى حدّ كبير بوليصة التأمين على السيارات، ويتمّ تداولها في الأسواق، وتُحدّد أسعارها نتيجة العرض والطلب.
من دون الغوص في تقنية هذه الأدوات، يتوجّب معرفة أنه كلما ازداد الخطر على المالية العامّة، إزداد سعرها والعكس بالعكس. وأبعد من ذلك، إذا كان الانطباع العام في الأسواق أنّ هناك مخاطر مُحدِقة بالمالية العامة (حتى لو كان هذا الأمر غير صحيح)، ترتفع الأسعار نتيجة العرض والطلب.
بالطبع إنّ الخطر على المالية العامّة أسبابه سياسية، أمنية أو اقتصادية، والتي تؤدّي إلى رفع النفقات وخفض الواردات، وبالتالي زيادة العجز ومعه تراجع قدرة الدولة على سداد ديونها.
تُظهر البيانات التاريخية للتأمين على سندات الخزينة اللبنانية (LB CDS 5Y) أنّ أسعار التأمين على السندات السيادية تتعلّق بشكل كبير بالأوضاع السياسية.
ففراغ عامين في منصب الرئاسة الأولى، جعل مُستوى أسعار التأمين على السندات السيادية تتأرجح حول مستوى ٤٨٠ نقطة، لتتخذ منحى تصاعدياً في شهر تشرين الأول ٢٠١٦ وذلك نتيجة وصول المفاوضات في ملف الإنتخابات الرئاسية إلى حائط مسدود، حيث وصل سعر التأمين على السندات السيادية إلى ٥٢٠ نقطة.
لكنّ انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية، شكّل نقطة تحوّل حيث انخفض السعر إلى ٥١٥ نقطة (في اليوم التالي) واستمرّ المنحنى الانخفاضي للأسعار مع تكليف الرئيس الحريري، ليعود بعد ذلك إلى الارتفاع نتيجة التعثّر في تشكيل الحكومة، ووصل السعر إلى القمّة في ٢ كانون الأول ٢٠١٦ مع ٥٦٢ نقطة. لكن تشكّيل الحكومة شكّل نقطة ارتياح كبيرة في الأسواق إنخفضت معها أسعار التأمين على السندات السيادية إلى ٤٢١ نقطة أي أكثر من ١٤٠ نقطة من القمّة.
والجدير بالذكر أنّ الفترة التي سبقت إقرار مراسيم النفط وما شاع حولها من احتمال «وجود صفقات» دفع بالأسعار إلى التأرجح بنِسَب كبيرة تفوق المئة نقطة في اليوم الواحد!
الفترة التي تلتّ شهدت انخفاضاً في المستوى العام للأسعار لتصل إلى مستوى مُسطّح (flat) نتيجة الإنتظار الذي ترافق مع الاجتماع الرباعي حول قانون الانتخابات. وأدّى رفض القانون المُقترح إلى رفع أسعار التأمين على السندات السيادية من ٤٣٦ نقطة في ٣٠ كانون الثاني ٢٠١٧ إلى ما فوق الـ ٤٥٠ نقطة في ٢ شباط ٢٠١٧!
بالطبع العامل الإدراكي للأسواق ليس الوحيد في تحديد أسعار التأمين على السندات السيادية، فهناك عوامل أساسية (fundamentals) مثل نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي التي تُعتبر من أهم العوامل وذلك بحسب دراسة لـ أريكسون (٢٠٠٩).
والمعروف أنّ استحقاقات الدولة اللبنانية من الدين العام ترتفع إلى ما يقارب 8 مليارات دولار أميركي هذا العام مع استحقاق أوّلي في شهر آذار المُقبل بقيمة ١,٥ مليار دولار أميركي. بالطبع هذا الأمر سيرفع من أسعار التأمين على سندات الخزينة خلال هذا العام، إلا إذا تمّ اتخاذ الإجراءات المُناسبة من قبل الحكومة.
وتأتي نسبة النمو الإقتصادي لتؤدي دوراً ملحوظاً من ناحية رفعه لمداخيل الدولة، والعجز في الموازنة نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي، الذي وبحسب أيمبيروفيكز (٢٠٠٩)، يدفع إلى رفع أسعار التأمين على السندات السيادية.
في الاتجاه المُعاكس، نرى أنّ ارتفاع أسعار التأمين على السندات السيادية يفرض رفع نسبة الفائدة عليها من قبل المُستثمرين. هذا الواقع يدفع إلى رفع خدمة الدين العام بشكل ميكانيكي ومعه الدين العام يحكم ركود النمو وغياب أيّ مداخيل إضافية للخزينة.
من هنا نرى أنّ الحراك السياسي يؤدي دوراً أساسياً في كلفة الدين العام، وهذا يفرض وعي ومسؤولية عالية من قبل الطبقة السياسية التي من المفروض أن تترفّع عن مصالحها الشخصية لصالح المصلحة العامّة.
على صعيد آخر، هناك استخدام آخر لأدوات التأمين على الديون السيادية ويتمثّل بالمضاربة في الأسواق المالية. والمضاربون يعمدون إلى شراء أدوات تأمين على السندات السيادية من دون أن يمتلكوا سندات خزينة وذلك بهدف بيعها حين ترتفع الأسعار التي ترتبط بشكل شبه ميكانيكي بالأحداث السياسية!
وخطورة هذا الأمر تتمثّل بأنه في حال تمّت إعادة هيكلة الدين العام، فإنّ هذا الأمر سيدفع إلى تفعيل التأمين، وبالتالي ستكون المُستحقات المالية على المصارف اللبنانية هائلة!
هذا النوع من المضاربة ممنوع في الإقتصادات المُتطوّرة مثل الإتحاد الأوروبي الذي منع شراء تأمين على سندات سيادية من دون امتلاك سندات (Naked CDS).
لذا، المطلوب اليوم من مصرف لبنان أن يعمد إلى نشر حجم سوق الـ CDS والمُصدرين اللبنانيين الأساسيين لهذه الأدوات، لأنّ في ذلك شفافية كبيرة خصوصاً أنّ حجماً كبيراً يعني أنّ هناك قنبلة موقوتة تنتظر لبنان. وبحسب تقديراتنا فإنّ حجم هذا السوق يصل إلى ٤ مليارات دولار تُشكّل التزامات للمصارف اللبنانية في حال تمّت إعادة هيكلة الدين العام اللبناني.
في الختام لا يسعنا القول إلّا انّ الوضع السياسي يبقى العامل الأول الذي يؤثّر في الوضع الاقتصادي والمالية العامّة، وانّ أيّ تخبّط سياسي يرفع تلقائياً الكلفة المالية بالتزامن مع تردّي الوضع الإقتصادي.