كتبت صحيفة “الأنباء” الكويتية: عندما أخذ الرئيس سعد الحريري القرار الصعب بتأييد انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية، لم يأخذ بتحفظات ونصائح وتحذيرات حلفائه والمقربين منه في كتلة المستقبل: هناك من نصحه بالتروي وانتظار أسابيع وأشهر قليلة،وحتى ربيع ٢٠١٧ لمعرفة من سيكون الرئيس الأميركي الجديد وماذا سيتغير معه، وللوقوف على ما ستؤول إليه الأوضاع في سورية المتأرجحة في مرحلة انتقالية بين الحرب والمفاوضات، هناك من حذره من أنه سيواجه مع الرئيس ميشال عون ما واجهه والده الرئيس رفيق الحريري مع الرئيس إميل لحود من مضايقة ومحاربة، وهناك من لفته الى تسوية غير متكافئة تبقي عون رئيسا لست سنوات، في حين أن بقاءه في الحكومة ليس مضمونا بشكل كامل إلا لبضعة أشهر حتى الانتخابات النيابية في العام ٢٠١٧، فإذا خسرها أو خرج منها ضعيفا تصبح عودته الى رئاسة الحكومة غير مؤكدة وغير مضمونة، لم يأخذ الحريري بكل هذه النصائح والتحذيرات ومضى قدما في التسوية السياسية التي بموجبها دعم وصول عون الى قصر بعبدا مقابل عودته هو الى السراي الحكومي وتعهد عون له بثلاثة أمور أساسية:.
– عدم اللجوء تحت أي ظرف الى إسقاط الحكومة على غرار ما حدث في العام ٢٠١٠.
– الالتزام باتفاق الطائف.
– تنقية العلاقات مع الدول الخليجية وفي مقدمتها السعودية.
لم يطلب الحريري ولم يقدم عون أي موقف أو تعهد يتعلق بحزب الله وسلاحه ودوره العسكري في الحرب السورية، وكان واضحا للجميع أن تفاهمات الحريري مع عون لن تكون على حساب التفاهم الموقع مع حزب الله الذي لولاه لما وصل عون الى قصر بعبدا.
جرت جلسة الانتخاب التي لم يحشد فيها الحريري بشكل كاف أعضاء كتلته للتصويت للرئيس عون، وبدا أن الكتلة غير متماسكة في هذا الخيار ولم تكن قد استوعبته بعد، ولكن الحريري وكل كتلته، حتى الرئيس فؤاد السنيورة، أظهروا الإعجاب والتقدير “لخطاب القسم” الدقيق والمتوازن، الاختبار الأول للعلاقة بين عون والحريري كان في تشكيل حكومة العهد الأولى.
ومر هذا الاختبار بنجاح وإن حصل بعض التأخير بسبب عقد عدة كان أبرزها ظاهريا “عقدة فرنجية”، ولكن كان أبرزها في الخفاء عقدة الوزير الماروني (غطاس خوري) الذي أصر عليه الحريري ولم يقبل به عون إلا بعد حصوله على وزير سني (طارق الخطيب) في المقابل، كان متوقعا للتعيينات الإدارية التي تشمل مراكز عدة حساسة أن تشكل الاختبار الثاني للعلاقة.
ولكن حصل أن انفجر لغم قانون الانتخابات وحصل أول تصدع في العلاقة بين الحريري وعون، وأول افتراق في المصالح: فالرئيس الحريري مصلحته السياسية الانتخابية تكمن في أمرين: إما انتخابات على أساس قانون الستين بما يؤمن له الحفاظ على كتلة نيابية كبيرة، وإما تأجيل الانتخابات لسنة أو أكثر ولفترة تكون كافية لتثبيت وضعه في الحكم وخارجه، وتسوية أوضاعه المالية والشعبية واستعادة ما خرج عن سيطرته في الشارع السني.
الرئيس عون أعلنها صراحة أنه لا يريد لا هذا ولا ذاك، لا قانون الستين ولا التمديد، وأنه مستعد للقفز الى خيار الفراغ، ولكن الفراغ النيابي الذي لم يحسب حسابه أحد لا يمس فقط الرئيس نبيه بري والمجلس وإنما يمس ويعني أيضا الرئيس الحريري والحكومة التي ستصبح في حكم تصريف الأعمال، وبالتالي يكون حصل إخلال بأحد أهم بنود التسوية وهو عدم إسقاط الحكومة بطرق غير عادية تفوح منها رائحة انقلابية.
الرئيس الحريري كان عبر أمام مقربين وفي مجالسه عن ارتياحه لسير العلاقة مع رئيس الجمهورية والتي تحكمها الثقة وروحية التعاون، وعن ارتياحه وسروره لزيارة عون الى السعودية وأن تكون أول دولة يزورها معيدا لبنان الى “عمقه العربي”، ولكن بعد “واقعة” قانون الانتخابات في مجلس الوزراء ومواقف الرئيس واستقبالاته في قصر بعبدا والطريقة التي يدير بها الحكم، بدأ الحريري يتلقى ملاحظات وانتقادات وصل بعضها الى حد تحريضه على رئيس الجمهورية ودعوته الى إثبات وجوده، سمع الحريري كلاما من هذا النوع وبما معناه وفحواه: – عون يطبق الطائف على طريقته ويستحدث أعرافا جديدة لتقوية وتعزيز صلاحيات رئاسة الجمهورية (تفعيل المجلس الأعلى للدفاع حصر المفاوضات والاتفاقات الدولية بالرئيس).
– عون يعقد الجلسات الهامة والدسمة لمجلس الوزراء في قصر بعبدا ويترك للحريري أن يترأس الجلسات غير المهمة في السراي الحكومي.
– عون يتفرد في اتخاذ القرارات وتحديد المسارات والتوجهات، وهذا ما حصل عندما قرر إسقاط خياري الانتخاب على أساس الستين والتمديد، وهذا ما حصل عندما أعلن موقفا مؤيدا للرئيس بشار الأسد وبقائه في أول خروج على سياسة الحياد الإيجابي التي أقرت بدلا من سياسة النأي بالنفس.
– عون نقل “اللعبة والحركة” الى قصر بعبدا الذي صار مركز الجذب والاستقطاب للديبلوماسيين والسياسيين والأحزاب والطوائف وقطاعات المجتمع والاقتصاد والمهن.. إلخ، ولا عجب في ذلك مادام رئيس الجمهورية يستحوذ على كل السلطات تقريبا: الدفاع والأمن، السياسة الخارجية، العدل والقضاء، الاقتصاد بكل تفرعاته (التجارة والنفط والمياه والكهرباء والسياحة والبيئة).
– عون يستضعف الحريري ويستشعر ضعفه ويتعاطى معه على هذا الأساس وأنه ليس قادرا على المواجهة.
– عون يعطي الأولوية المطلقة لتحالفه مع حزب الله ويستقوي به في معركة استعادة الحقوق والدور والصلاحيات التي تدور في ظل حكومة استعادة الثقة.
– المعادلة الحالية في البلد والحكم هي “معادلة عون حزب الله”، وتبعا لذلك فإن الحريري هو “الحلقة الأضعف”، وبري عصره الذهبي الى أفول، ووليد جنبلاط لم يعد على طاولة القرار ومشاركا في صنعه، وباختصار، ثمة في أجواء الحريري وأوساطه من بدأ يعبر عن هواجس ومخاوف من أداء الفريق الرئاسي لكسر قواعد لعبة الحكم التي ترسخت خلال العقد الماضي توطئة لفرض أعراف وقواعد جديدة وبقاء الكلمة الفصل فيها الى رئاسة الجمهورية، وبدا من خلال هذه الأجواء كما لو أن “حربا باردة” بدأت بين رئاستي الجمهورية والحكومة.
لا يصغي الحريري ولا “يدير أذنه” لهذه الانتقادات والمخاوف التي تنم عن سوء نية وهدفها الاستفزاز والإيقاع بين رئيسي الجمهورية والحكومة، ويحرص الحريري على العلاقة مع رئيس الجمهورية وعلى أن تستمر علاقة تعاون مثمر، ويحرص على أن لا يدع أحدا أو ملفا يفسدها ويخربها، الحريري يدرك جيدا:
– أن استقراره واستمراره في الحكم يتوقف الى حد بعيد على علاقة مستقرة مع رئيس الجمهورية.
– أن العلاقة مع عون تخفف من وطأة حزب الله وتوجد مساحة سياسية عازلة بينه وبين الحزب.
– أن العلاقة مع “عون الرئيس” تتقدم على العلاقة مع أي حليف سواء كان بري أو جنبلاط أو جعجع.
– أن أي مواجهة مباشرة مع عون في هذه المرحلة ستطيح عملية بناء الثقة ومعها التسوية السياسية والأسس التي قامت عليها.
ولذلك، فإن الحريري لا يتجاوب مع أي مسعى أو مخطط لإيجاد شرخ بينه وبين عون أو لاستخدامه في محاربة عون، لا بل يمارس سياسة الانكفاء الى الخطوط الخلفية والاحتماء بها، كما هو حاصل في معركة قانون الانتخابات، حيث يقف جنبلاط في الواجهة وعلى خط التماس المباشر مع عون، وحيث تبدو المشكلة والمعركة وكأنها حصر بين عون وجنبلاط فيما هي في الواقع أكثر تشعبا، فمن جهة هي مشكلة جنبلاط مع حزب الله، ومع النظام السوري، ومن جهة أخرى وفي مكان ما هي مشكلة الحريري مع حزب الله، ومع عون، ولكن لا جنبلاط من مصلحته كشف مشكلته مع الحزب، ولا الحريري من مصلحته تفجير علاقته مع رئيس الجمهورية، وأغلب الظن أن الأمور ستسير ضمن خطوط وضوابط التسوية، وأن الانتخابات النيابية ستجري ولكن ليس على أساس قانون الستين وليس في موعدها، وإنما على أساس قانون جديد وبعد تأخير لأشهر يسمى “تمديدا تقنيا”.