كتب محمد محسن في صحيفة “الأخبار”:
وفق تصريحات رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني، سيبلغ العجز في بلدية بيروت هذا العام نحو 42 مليون دولار، وستتم تغطيته من أموال البلدية المودعة في مصرف لبنان. قد لا تكون “الحسبة” دقيقة، وكذلك خطة عيتاني لإقفال عجزها. إذ أن المستندات التي حصلت عليها “الأخبار” تفيد بوجود هدرٍ وتجيير أموالٍ غير مستحقة لموظفين في البلدية خلال السنوات الماضية، تقدر بملايين الدولارات.
في 26 كانون الثاني الماضي، نشر محافظ بيروت القاضي زياد شبيب صورة له، مرفقة بخبر عن جولة مفاجئة في مبنى البلدية (2). هدف الجولة، كما ورد في صفحته على فيسبوك، “الاطّلاع عن كثب على مدى التزام الموظفين بمواعيد العمل الرسمية وحسن سير العمل من خلال إنجاز معاملات المواطنين…”.
الصورة التي أرفقها شبيب بخبر الجولة لم تكن في المبنى المذكور في الخبر، بل في مبنى آخر، وبدا فيها كمن يقتحم المبنى، فيما ظهر الآخرون في الصورة ظلالًا فقط. قبل نشر صورة “الاقتحام” بيومين، كان شبيب قد أصدر قراراً أحال بموجبه بعض أطباء البلدية إلى المجلس التأديبي، وأصدر تنبيهات لعدد من المهندسين بسبب الاهمال الوظيفي.
في تصريحات لرئيس البلدية جمال عيتاني، أخيراً، عن موازنة البلدية هذا العام، نقطة ضعف جوهرية قانونيًا، وهي ضرورة استناد الموازنة إلى قطع حساب العام الماضي (2015) عند الاعداد، وهو ما لم يحصل. وهنا تسجّل المخالفات القانونية التالية:
ــــ خلل في قطع الحساب للعام 2015 الذي لم يتم إنجازه بسبب وجود فرق كبير جداً في الأموال المدوّرة (الأموال الباقية قيد التحصيل من العام السابق) من 2014 إلى 2015.
ــــ التأخر في تسليم قطع الحساب للعام 2015 والذي كان من المفترض تسليمه قبل 15 آب من العام الماضي، بعد مناقشته وإقراره في المجلس البلدي.
قانونيًا، دائرة المحاسبة الإدارية في المصلحة المالية لبلدية بيروت هي المسؤولة عن إعداد قطع الحساب بإشراف مدير المصلحة المالية، وذلك مشروط بتقديم حساب المهمة من محتسب البلدية (رئيس دائرة الخزينة)، وهو ما لم يحصل أيضًا منذ أكثر من 10 سنوات!
بالعودة الى جولة المحافظ التفتيشية على مصلحتي المالية والمؤسسات المصنّفة، اللافت أن من رافقه هو نفسه الموظف الذي لم ينجز قطع وحساب المهمة للبلدية: رئيس دائرة الخزينة، ومدير المصلحة المالية بالتكليف، والمشرف على دائرة المكننة، علي عثمان. المفارقة الأخرى، هي أن عثمان مجاز في التاريخ، لكنّه يدير ثلاثة من أهم المراكز الحيوية في البلدية مالياً ومعلوماتيًا.
ويحكى في أروقة البلدية عن رسومٍ غير مسدّدة من شاغلي نطاق “سوليدير” تتجاوز 10 مليون دولار. لكنّ المستندات التي حصلت عليها “الأخبار” تفيد بوجود هدرٍ مؤكد ضمن نطاقات أخرى غير “سوليدير” يبلغ نحو 20 مليون دولار قابل للزيادة مع مرور الزمن، تحت مسمّى “الرسوم الساقطة مع مرور الزمن (5 سنوات)” استنادًا إلى المادة 169 من قانون الرسوم والعلاوات البلدية 88/60.
هذه الرسوم صادرة في جداول إضافية وتكميلية للرسوم المتوجبة على بعض المكلّفين ضمن نطاق بلدية بيروت. المسؤول قانونيًا عن عدم تبليغ هذه الرسوم إلى المكلّفين، هو عثمان نفسه مدير المصلحة المالية منذ العام 2005، لأنّ هذه الأرقام تعود للجداول الصادرة قبل عام 2010، وهو، قانونياً، يتحمّل، في الحد الأدنى، مسؤولية الإشراف على الدائرة المعنية بتبليغ الرسوم (دائرة التحصيل)، وما زالت المسؤولية على عاتقه إلى اليوم. إذ أنّه بعد علمه بهذه الأرقام المهدورة، لم يبادر إلى معالجة مشكلة عدم تبليغ المكلفين بالرسوم المتبقية الصادرة بجداول إضافية وتكميلية، والتي يتوقع أن تُهدر، وتتجاوز قيمتها هي الأخرى 20 مليون دولار.
تغاضي البلدية عن أموالها المهدورة، له وجه آخر في دوائرها. وهنا، أيضاً، يحضر اسم عثمان. فجداول مستحقّاته منذ 2005 حتى 2015 تظهر حصوله على 230 ألف دولار بشكلٍ غير قانوني، كبدل عن عائدات للجباية والغرامات بصفته مدير المصلحة المالية بالتكليف، ومستحقات قانونية عن مركز رئيس دائرة الخزينة بدل عائدات جباية وغرامات تبلغ نحو 146 ألف دولار. وعثمان هو من صرف لنفسه هذه المستحقات، رغم وجود رأي لمجلس الخدمة المدنيّة يستند على نص المادة 46 من نظام موظفي بلدية بيروت، يمنع استفادة الموظف المكلّف من أي منافع ومكتسبات قد تعود للوظيفة المكلّف بها. فكيف صرف الأموال لنفسه إذاً؟
تفيد مصادر في البلدية بأن عثمان استحصل على رأي من ديوان المحاسبة يجيز له تقاضي هذه العائدات المرتبطة بالوظيفة المكلّف بها، بحجة أنّ البلدية ليست خاضعة لمجلس الخدمة المدنية في ما يتعلق بالأمور المالية. لكنّ الرأي الاستشاري لديوان المحاسبة رقم 50/2000 في حالة مشابهة، اعتمد فيها على المادة 48 من نظام موظفي بلدية فرن الشباك الذي يجيز صرف التعويض الأعلى بين الوظيفتين. فلماذا اعتمد ديوان المحاسبة في هذا الرأي على نظام موظفي بلدية ما، ولم يعتمد على نظام موظفي بلدية بيروت في رأيه في الأمر نفسه؟ علمًا أن رأي ديوان المحاسبة ليس ملزمًا قانونًا للبلدية، بل استشاري فقط، وهي ملزمة بنظامها الخاضع لسلطة مجلس الخدمة المدنية.
قيمة المبالغ “غير المستحقة” لعثمان عن عائدات الجباية والغرامات، توازي تقريباً ربع قيمة التعويض الذي يطالب به منذ العام الماضي، والذي يبدو أنّه سيصرف له بعد تقاعده في أيلول المقبل. وقد وصل الكتاب رقم 18101/2015 إلى مجلس شورى الدولة بعد إحالته من محافظ بيروت مرفقاً بجدول يقدّر قيمة التعويضات المطلوبة من جانب عثمان بدلا عن وظائف شاغرة في المصلحة المالية بـ800 ألف دولار. لم يصدر مجلس الشورى قراره حتى الآن. تؤكد مصادر من داخل البلدية، أن عثمان نفسه اعترض عام 2014 على طلب أحد الموظفين صرف تعويضات عن وظائف شاغرة، ولم يصرفها إلا بعد إصرار المحافظ وتأكيده على صرفها. فكيف يطالب اليوم بصرف أضعاف مضاعفة عمّا صرف للموظف المذكور وهو في الوضعية القانونية نفسها؟ في المحصّلة، نتحدّث عن مسارب هدر، ربما يمكن أن تعوّض عن جزء كبير من العجز الذي تحدّث عنه رئيس البلدية في مؤتمره الصحافي الأخير، إن تمّ ضبطها، بما يغني عن سحب مبالغ من ودائع البلدية في مصرف لبنان، وبما يغني أيضاً، عن الاستعانة برئيس دائرة الخزينة في جولات المحافظ التفتيشية لمعاقبة المتخلفين عن دوامات عملهم!
لا حساب مهمة في بلدية بيروت منذ عام 2001. حساب المهمة هو، قانونًا، الأعمال التي يقوم بها محتسب البلدية خلال السنة المالية المنقضية، أي مجموع العمليات المالية التي قام بها المحتسب من قبض أو دفع خلال العام. بالنتيجة، لا يوجد في بلدية العاصمة مستندات رسمية حول ما تقبض وما تدفع، بالتفصيل، منذ 16 عاماً!
في 1 كانون الأول 2016 عمّم محافظ بيروت القاضي زياد شبيب كتاب المفتشة المالية سامية ضاهر، الذي يظهر أن رئيس دائرة الخزينة علي عثمان لم ينجز حسابات المهمة منذ تسلمه رئاسة الدائرة وحتى تاريخ صدور كتابها الذي طلبت فيه تسهيل العمل لإنجاز حسابات المهمة قبل تقاعد عثمان في 8 أيلول المقبل. علماً أن القانون يلزمه بذلك (المادة 176 من قانون المحاسبة العمومية).
في 9 كانون الثاني 2017 أرسلت ضاهر كتابا إلى عثمان، أمهلته فيه مدة أسبوع حداً أقصى لتسليم حسابات المهمة على التوالي، تحت طائلة المساءلة. حتى اليوم، لا إجابة من جانب عثمان. استدعته ضاهر (نص الاستدعاء موجود في سجلّ المصلحة الماليّة في بلديّة بيروت)، لكنّه حتى اليوم لم يلبِ طلب الاستدعاء. حسابات دائرة الخزينة غير مقفلة منذ 2012 لغاية اليوم، وهذا يعني أنّ صحة هذه الحسابات غير مؤكدة، بمعزل عن حجم الأخطاء المالية في إعدادها. هذه المعطيات لا تلغي أهمية إعداد حساب المهمة. فديوان المحاسبة في تقريره رقم 2012/1 أعاد قطوعات الحساب للأعوام 2008 و2009 و2010 إلى وزارة المالية، إلى حين إعداد الوزارة حسابات المهمة. المرسوم 65/3373 ينص على أن حسابات قطع الحساب تؤخذ من حسابات المهمّة. وهنا، ليس مفهومًا كيف قبل ديوان المحاسبة قطوعات الحساب التي أعدّتها المصلحة المالية في بلدية بيروت من 2001 لغاية 2014، في ظلّ عدم تقديم حسابات المهمّة منذ 2001؟
منذ أيام، اتخّذ محافظ بيروت إجراءات إدارية ومسلكية في حق عدد من موظفي البلدية لتقصيرهم في أدائهم الوظيفي. في أروقة البلدية كلام كثير بين الموظفين عن “استنسابية يعتمدها المحافظ على مستوى الاجراءات العقابية”. إذ أنّه وفق مصادر في البلدية “يستقوي على موظفين عاديين، بينما يتجاهل عن قصد أو غير قصد، معاقبة موظفين مقصرين تجاه أمور جوهرية وبالغة الحساسية في عمل البلدية، وإهمال حسابات المهمة نموذجاً. يروج محافظ بيروت في الصحف وفي صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، أخباراً توحي بأنّه جديٌّ في حملته لضبط إيقاع العمل الإداري في بلدية بيروت. وهنا يجدر طرح أسئلة عديدة على المحافظ وغيره من المعنيين بضمان دورة عمل البلدية ومؤسسات الدولة:
ــــ ما الذي يمنع إحالة موظفين كبار مقصرين في مهامهم إلى المحاسبة، وفق المستندات التي يعلم المحافظ بوجودها، وهي تتعلق بالمال العام؟
ــــ على ماذا يستند هؤلاء الموظفون في عدم تلبية طلبات التفتيش المركزي وتجاوزها كأن شيئًا لم يكن؟
ــــ لا توجد هيئة تفتيش مركزي من شأنها البت في التقارير المرفوعة من قبل المفتشين بخصوص عمل مؤسسات الدولة وبلدياتها. وحتى إنشاء هذه الهيئة، ماذا ستفعل وزارة الدولة لشؤون التنمية الادارية ووزارة الدولة لشؤون مكافحة الفساد؟