IMLebanon

ماذا روت والدة سمير جعجع قبل رحيلها؟

 

 

كتبت مرلين وهبه في صحيفة “الجمهورية”:

قصدتها في العام الماضي لمعايدتها في عيد الأم على اعتبارها أما مناضلة، ولأنني علمت من صديقة مشترَكة كيف عملت بصمت وصلابة.

في منزلها القريب من كنيسة مار منصور الواقع بين انطلياس واطراف النقاش كان لقاؤنا… لم تكن ماري الخوري جعجع تحب الظهور ولا التحدّث أمام عدسات الكاميرات ولا التباهي بما صنعته يداها بل تركت صلاتَها تفعل.

وحين رجوْتها مقابلةً صغيرة تمنّعت في بادئ الامر مبرِّرة رفضها بالقول إنّ الصفحات لا تسع الشهادات وحكايات النضال التي يكتنزها قلبُها كما أنها لا تحب إزعاجَ ابنها بتعليقات الصحافة “فلديه الأهم ليشغل باله” بحسب تعبيرها… كما أنّ سيرة النضال ليست لأحد عشر عاماً فقط بل منذ السنوات الأولى لنشأة أولادها وخصوصاً ابنها سمير، وقد شهدت مآثرها وشاركت من حيث لا تدري بمسارها فكان لها الأثر الكبير في تكوين شخصية قائد القوات اللبنانية ابنها سمير جعجع.

لا أدري كيف بدأت “التانت ماري” بالسرد على رغم تمنّعها في بادئ الأمر، وبسلاسة تمّت دردشة صادقة استرجعت فيها أم جوزيف ذكريات الماضي والحاضر، أنشرُ القليلَ منها وفاءً لوعدي لها.

وتكلّمت “الحكيمة”

“منذ صغره عرفتُ بأنّه سيكون قائداً وزعيماً. كان ولداً ناضجاً خدوماً وطنياً ومندفعاً ودائمَ الجهوزية، كان يعينني في الحقل وكان شابّاً صلباً يحمل معي على زنده وكتفه الأثقال ويلهف الى مساعدتي، يحبّ الناس وأهل قريته، وحبّ الوطن هاجسٌ وأولويّة في حياة ابني سمير”.

تتنهّد “تانت ماري” بصعوبة وتتابع: أحبّ أولادي جميعهم وقد ناضل كلّ منهم على طريقته، وكانوا مخلصين لتربيتنا أبو جوزف وأنا. إنني فخورة بما أنجزوه كما انا فخورة بولديّ جوزف ونهاد وبأحفادي، فهم مناضلون وأتقياء وقد أحرزوا تفوّقاً في شتى المجالات وأحرزوا شهاداتٍ يُحتذى بها وألقاباً نفخر بها كما تفخر بهم بلدتهم بشري ووطنهم لبنان.

إلّا أنّ علاقتي مع سمير مختلفة فهو مختلف في التكوين والطبع وعلاقتي معه مميّزة كتميّزه عنهم، فهو تنبّه الى حكمتي منذ الصغر وأنا التي كنت أردّد أمامهم “ما بدنا نتعلّم تناكل ونشرب! كلّ العالم بتاكل وبتشرب بدنا نكون مميّزين… بدي ياكن تكونوا علامة فارقة وعدم الاكتفاء بالعلم من أجل المأكل والمشرب فقط”.

ويبدو أنّ سمير التقط السرّ فلم يسعَ في شبابه الى التعلّم ونيل الشهادات العليا لتكمل الحياة مسيرتها الطبيعية في حياته بل فطن أنّ الشهادة في سبيل الوطن أهم من “الشهادة” الورقية التي سيحصل عليها بعد تخرّجه من الكلية، وحين تحادثنا عن ضرورة استكمال سنته الأخيرة في الجامعة للحصول على إجازته في الطب وقد كان طالباً متفوّقاً بشهادة جميع أساتذته الجامعيين الذين طلبوا منّي إقناعه بضرورة إكمال سنته الأخيرة، أجابني: “الوطن قبل الشهادة إذا راح الوطن منروح كلنا نحنا والشهادة وما بيعود إلها قيمة بدون وجودنا”.

شعرتُ بشخصيّة القائد وروحية الزعيم في تصرفاته منذ الصغر فلم يعش طفولته كسائر الأطفال، كان يأخذ “خرجيّته” ليشتري بها جريدة لحبه للسياسة، في حين كان رفاقه يشترون بـ”خرجيّتهم” الحلويات من الدكان.

وكان الكرم يميّز طباعه وكم تفاجأت عندما شكرتني زوجة القندلفت في الكنيسة وتلعثَمتُ من الصدمة لأنني لم أعرف عن ماذا تتكلّم وبماذا أجيبها!… كنتُ قد ابتعت سترةً جديدة في العيد لسمير وهو ما زال يافعاً إلّا أنه عاد الى البيت متأخّراً من دونها، ولمّأ سألته أين السترة وهي باهظة الثمن كنتُ قد ادّخرت من معاش أبو جوزف لشرائها أجابني سمير “نسيتها على الحجر بعد أن ألقيتها هناك”. إلّا أنّ الحقيقة لم تكن النسيان بل إنّ سمير كان وهبها الى ابن القندلفت بعدما كان برفقته وشعر الشاب بالبرد ولم يمكن يملك سترة!

تضحك ام جوزيف عندما تتذكر الحادثة، وحين سألتها إذا عاتبته أجابت: “لا لم أفعل”.

وأكملت بعدما طاب لها استذكار طفولة الحكيم “كان يأتي الى المنزل في وقت الغداء مصطحباً معه جيشاً من الرفقاء ويسألني “ماذا حضّرت من الطعام فلدينا ضيوف؟” في الوقت الذي أكون قد حضرت طبخة عادية للعائلة بما أنه لم يعلمني مسبقاً.. إلّا أنني لاحقاً حفظت الدرس”.

وتتابع: “سمير كان يحب النكات والمزاح والتعليقات المضحكة فكان يمزح مع والده كثيرا فيما كان أبو جوزف يضحك بصمت ومن قلبه.

“علاقته متينة للغاية مع والده الذي يعتبره “قديس البيت” وأيقونة المنزل فقد أخذ سمير من والده صلابة الإيمان فيما أخذ من كلينا عادة المثابرة على الصلاة..” تعترف أم جوزف، وتقول إنها “إنسانة صلبة وقوية ومعاندة ومكافحة” فهي لم تجزع من الكشف عن أنها واجهت حرّاس ابنها في المعتقل مرات عدة، حتى إنها تلاسنت مع بعضهم وقد ذاقت الأمرين من رحلة العذاب على مدى11 عاماً كانت تواظب فيها على زيارة ابنها كلّ ثلثاء وخميس من كلّ اسبوع وكان اللقاء مع سمير بالنسبة لها فرضاً لصلاة مقدّسة لم تنقطع عنها ولا مرة خلال 11 عاماً.

أرجعتُها الى حديث الطفولة بعد أن احتدّ النقاش وتغيّرت ملامحها عندما تذكّرت كيف أساء الحراس معاملتها مع أبو جوزيف قبل وخلال مقابلة ابنها سنين سجنه… فسألتني، ماذا تريدين ان تعرفي بعد؟ سأخبرك أنّ ابني حمل العدّة على أكتافه معي عندما قرّرنا استكمال بناءَ منزلنا في بشري في الطابق السفلي وقد كان سعيداً بذلك فهو إبن “قبضاي” ويستمتع بالعمل بيديه.

تصوّري، كان يمضي إجازته الصيفية مع الراسبين في الشهادة المدرسية فيجمعهم ليعلّمهم وليدرّسهم قبل تقديم امتحاناتهم للدورة الثانية كي ينجحوا ولم يكن يكتفي بتدريسهم لوحده بل كان يُجبر أخاه جوزف على معاونته وجوزف ابني الكبير هو حادّ الذكاء أيضاً وقد اصبح اليوم من أهم العلماء في أميركا ويدرّس في إحدى كبريات جامعاتها، فسمير كان يجبره على تعليم أولاد الضيعة معه في الصيف كي لا يخسروا سنتهم الدراسية.

وحين سألتها عن الحاضر وعمّا إذا كانت خائفة كما كانت سنين إعتقاله؟ تجيب: صدقّيني حين خرج من السجن أصبحتُ أكثرَ خوفاً عليه وقلت لوالده “هلق بلش خوفي الحقيقي… لا سيما عندما كثرت الاغتيالات وتوقّف سمير عن زيارتي لوقت طويل بعدما جاءتنا معلومات تفيد أنّ منزلنا مراقب إلّا أنه بالطبع لم يتوقّف عن الاتصال بي وأكثر من 10 مرات يوميّاً ليسألني عن صحتي وحاجاتي وحاجات والده وهو لم يقصّر معنا في حياته، إلّا أنها ضحكت فجأة بعدما تذكّرت “سالفة” حسب تعبيرها.

“في إحدى مناسبات 14 آذار كنتُ قد تمينت عليه عدم حضور الاحتفالات شخصياً في بيروت بسبب خوفي عليه، إلّا أنني في تلك الأمسية فوجئت وأنا أتابع الأخبار بحضوره الفجائي وسط زحمة المحتفلين وزحمة الاغتيالات، فطار صوابي ولم أتمالك نفسي من محادثته على الهاتف وقلتُ له لماذا نزلت الى بيروت في السيارة ألم يكن أفضل لك النزول على الدراجة كي يتمكّن الجميع من مشاهدتك ويعلم مَن لم يعلم بمكانك؟ وكان أن أجابني بنوبةٍ من الضحك.

رَحلت “الحكيمة”

في رحلتها الأخيرة الى مسقط رأسها بشري لم تصعد ام جوزف على دراجة لكي يراها الجميع بل صعدت في نعش مكلّلٍ بالأزهار البيضاء ورغم ذلك رآها الجمع وشعرت بزنودهم التي تسابقت الى رفعها عالياً.

بعدما زرعوا الطرقات الساحلية والجبلية المؤدّية الى مسقط رأسها بأوسمة بيضاء ويافطات غطّت الطرقات تكريماً لسيدة النضال الصامت التي رحلت ايضاً بصمت كما يرحل الكبار داعين إياها الى الصلاة للحكيم من السماء كما صلّت له على الأرض.

في أوائل الثمانينات انتقلت أم جوزف مع زوجها من عين الرمانة بسبب الحرب الى بيت متواضع عادي في أطراف انطلياس ولم تتباه مع زوجها بهويتهما كما لم يستغلّا مركز ابنهما لأيّ هدف في مسيرة حياتهما ولم يعلم بهويّتهما سوى القلائل من أهل المنطقة، فكانا بشهادة جيرانهما والأصحاب ينزلان للتسوق مثل بقية المواطنين بسيارة متواضعة ويملآن المياه للشرب وينقلانها الى المنزل مثلهما مثل الجميع، فيما كانت هوايتهما الوحيدة النزول يومياً لحجز مقعدهما في كنيسة مار منصور القريبة من المنزل لحضور الذبيحة الإلهية والصلاة من أجل اولادهما.

وبعد غياب أبو جوزف واظبت ام جوزف على الجلوس مع ابنتها نهاد “سندها” حسب وصفها لها، في المكان نفسه، قبل أن تتأزّم حالها الصحية بحسب مصادر صديقتها المقرّبة والانتقال من مستشفى سان لويس مروراً بمستشفى القرطباوي فيما استقرّت منذ أكثر من شهر في مستشفى سيدة لبنان قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة هناك في ليلة عيد مار مارون.

كذلك، كشفت صديقة ام جوزف المقرّبة أن “الحكيم” كان غالباً يزور والدته باستمرار إلّا أنه كان يعلم كيف ومتى يختار الأوقات الملائمة لذلك “دون جرس إعلامي”.

في النهاية أذكر كيف ختمت ام جوزف حديثها معي بفرح عندما تحدّثت عن الأوقات السعيدة التي كان يخصّصها الحكيم لاستقبالها مع أبو جوزف في معراب وكيف كان ينتقي المأكولات التي يعلم بأنهما يحبّانها وعن النزهة العائلية التي وصفتها بالغالية على قلبها وقلب زوجها الراحل في حديقة معراب غير أنها ليست الاغلى على قلبها لأنّ الأغلى حسب تعبيرها رسائل ابنها لها من المعتقل لاسيّما إحدى الرسائل الأثمن على قلبها وتحفظت على ذكر محتواها.

قبل مغادرتي لم تنسَ ام جوزف عادة الضيافة القروية بعدما أصرّت على أن تذوّقني تفاحةً حمراء “من الجرد” بل أصرّت على تحميلي كيساً كبيراً ما زلتُ أحتفظ منه بواحدة حمراء خبّأتها في الثلاجة للذكرى.