كتبت جانا حويس في صحيفة “المستقبل”:
لا يعرف اللبنانيون الكثير عن مصادر تمويل «حزب الله»، أكثرهم يعرفون معلومتين عامتين: هو حزب مموّل مباشرة من إيران، وهو كأي عصابة او ميليشيا او مافيا في العالم تعيش على إيرادات مالية ضخمة مكتسبة بطرق غير شرعية. عند هذه الحدود تقف نظرة اللبنانيين حيال حزب عُرف بضخامة إمكاناته المالية التي تخطّت إمكانات الدولة على الصعد كافة، مؤمّنة لمشاريعه وبيئته اكتفاءً ذاتياً مكّنهما من الاستغناء عن اي جهة اخرى لتأمين احتياجاتهما. بعضهم لا يعرف أصلاً ان ما يُحكى عن انغماس الحزب بتجارة المخدرات وعمليات تبييض الاموال قد تم إثباته بتوقيف العديد من عناصره في مطارات القارات الخمس وتفكيك شبكات دولية خطيرة تعمل لصالحه، حتى ان كثراً لم يعيروا خبر توقيف كامل أمهز مثلاً (مهرب الهواتف الخليوية الى لبنان) اهتماماً باعتباره مذنباً عادياً وقد تم توقيفه.
اليوم، وبعدما عاد الحزب بنتيجة خائبة من الحرب السورية، وبدأ عناصره بتوضيب حقائبهم متوجهين الى لبنان بعد سيطرة القوات الروسية على الميدان، باستثناء بعض القرى الحدودية مع لبنان، وبالتالي على القرار السوري والمباحثات الثنائية الروسية ـ الايرانية، حيث تظهر خلافات التقاسم جليّة، يُعيد “حزب الله” ترتيب اوضاعه المهتزّة، والأهم الاعتراف العلني بأزمته المالية التي دفعته الى الايعاز الى مسؤوليه وكوادره بضرورة جمع التبرعات من ابناء بيئته على قاعدة الضريبة التصاعدية، وإطلاق الحملات الترويجية عبر كل وسائله وصولا الى مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان “مشروع تجهيز مجاهد”.
كان من الطبيعي ان يطلب الحزب من مناصريه التبرّع، كل حسب إمكاناته، للقيام بالنشاطات الحزبية المعروفة شأنه شأن جميع الاحزاب اللبنانية والعالمية حتى. يمكن ان ينتهي النقاش هنا… بهذه البساطة. اما النقاش الذي لم يبدأ بعد، فهو حول ما ترتّب على الحزب من جرّاء انغماسه في الحرب السورية، اذا ما استثنيت الويلات التي هبّت على لبنان، فذلك حديث آخر. ويبدو ان “التعالي” الذي كان يحيط نفسه به كُسر بمطالب استثنائية تظهر للمرة الاولى بعد الترويج لها جدياً.
سعى الحزب منذ بداياته الى السيطرة على طبقة ما يعرف بـ “المحرومين” تاريخياً عبر صناعته لمظلّة حماية اجتماعية ومعيشية لأبناء الطائفة الشيعية في لبنان، من الاستشفاء والتعليم (الموجّه طبعاً) وتأمين سوق عمل حزبي قتالي لشباب بيئته، وصولاً الى سيطرته على العديد من المرافق العامة وتسخيرها خدمة لمصالح كوادره ورجال الاعمال المنضوين تحت رايته، من دون نسيان المناطق “الآمنة” من اي “كبسة أمنية” يمكن ان تطال محازبيه الخارجين عن القانون وتعرقل اعمالهم اللاشرعية. ولا حاجة هنا للتذكير بعزوف الدولة اللبنانية عن الاستفادة من تجارة الحشيشة ومنع زراعتها على كافة الاراضي اللبنانية، فيما تنعم بعض مناطق سيطرة “حزب الله” في البقاع بأمن استقوائي يجعل من زراعة الحشيشة والتجارة بها المردود الاول لـ”المحظيين” في القرى البقاعية الشيعية كما لأعمال الحزب الداخلية والخارجية. كل هذا لم يمنع اصحاب الاموال الطائلة من إبداء امتعاضهم فور تلقّيهم توجيهات الحزب بالتبرّع، وهم الذين لا يمكنهم نكران فضله المحدود تجاه بعض المتموّلين والمطلق تجاه البعض الآخر، بفتح ابواب التسهيلات الضخمة امامهم مكرساً التمييز القانوني في كافة القطاعات ومراكز الدولة. بدءاً بالتهريب عبر المرافق العامة الرسمية بكافة انواع البضائع التي تحتاجها الاسواق اللبنانية وصولاً الى فصل مناطق لبنانية عديدة عاصية حتى عن دفع الضرائب العادلة مقابل خدمات الدولة.
وبالانتقال الى التمويل الايراني الاساسي لبناء كيان لبناني متين موالٍ كلياً لسياسة ايران في المنطقة، حيث لم يتوانَ الحزب عن المجاهرة لسنوات بالمال الايراني الذي أعاد بناء كل ما تهدّم في الجنوب والضاحية الجنوبية عقب الحرب الاسرائيلية على لبنان في تموز 2006، والذي تحوّل ايضاً الى قاعدة تمويلية ضرورية استسهل الحزب من خلالها “جرّ” شباب واطفال لم تتعدَّ اعمارهم السادسة عشرة من خارج تنظيماته العسكرية ولم يخضعوا لأي تدريبات ولو بالحد الأدنى للقتال في سوريا، دخلت اليوم على خط الازمة التمويلية.
اذاً، وبعيداً من المعتقدات الدينية والعقائدية الحزبية والتي برزت بوضوح باستخدامها في الحملات الترويجية لجمع التبرعات، وبإرجاع عملية التبرّع بالمال الى كونها حاجة للمتبرع قبل ان تكون حاجة للحزب “ان دفع المال للمقاومة هو حاجة للمتبرّعين حاجة شرعية واخلاقية وايمانية وهم يشاركون في الحفاظ على كرامتهم وعزتهم”، فيما لم تتأخر فريال كنعان، احدى الناشطات على “تويتر”، عن ربط مرض العقم بوجوب التبرع قائلة “لكل من لديه عقم بولادة شهيد، جهّز مجاهداً لتُنجب لآخرتك شهيداً ووردة”. فقد بنى “حزب الله” كيانه الشعبي على العصب المالي والخدماتي الذي استطاع تأمينه لسنين وسنين مضت، ما مكّنه من التعاطي مع المجتمع الشيعي على انه شركة عائلية خاصة، يُخرج قراراته من الدرج ويُصدرها على من يحب ومن لا يحب، من يريد ويقتنع بالقتال ومن يرفض، من يريد التبرع بالمال ومن لا يريد. والظاهر أن الحزب بدأ يفشل بذلك، او ربما انقلبت لعبته عليه وعلى بيئته بالدرجة الاولى، فبعد استقبال جميع البلدات اللبنانية الشيعية من البقاع الى الجنوب جثامين اكثر من ألفي شاب قضوا في الحرب السورية، ها قد أتى دور التبرّع بالمال لصالح الحزب من الذين كانوا اصلاً يستفيدون من دعمه المالي كالفئات الشعبية العادية او من دعمه السلطوي كالمتموّلين الكبار.
فيما يبقى مستغرباً بروز حاجة الحزب إلى التبرّعات، وهو الذي أسّس لمدرسة حقيقية في مقاومة العدو الاسرائيلي رغم بساطة الدعم المالي واللوجستي في حرب تموز نسبة إلى الدعم الذي حصل عليه تمويلاً لحربه في سوريا والذي يفوق بدوره أضعاف ما تلقّته كافة اطراف النزاع السوري من الجماعات المسلحة. الحرب السورية التي “قضى” فيها “حزب الله” الذي نعرفه، أسقطته بدورها في امتحانها بعد عجزه الواضح عن إحراز اي إنجاز طيلة سنوات قتاله.
وفي أصدق رد فعل شعبي على حملة “مشروع تجهيز مجاهد” التي أُطلقت منذ ايام على مواقع التواصل الاجتماعي، رد حساب “كميل” الموالي للحزب على صفحته معتبراً ان تجهيز المجاهد ليس بالضرورة بالمال مكتفياً بالدعاء له وغرد “يمكنك تجهيز مجاهد بدعاء … (اللهم احفظ مجاهدي المقاومة الاسلامية)”. فيما علّق جمال بكير على الحملة بالدعوة الى مقاطعة كافة المؤسسات التي تعمل لصالح الحزب وكتب “لم تعد ارباح تبييض الاموال كافية ولا تجارة المخدرات والماس والسرقات والخمس وأموال ايران لتغطية نفقات حرب “حزب الله” على العرب، معه حق الرقعة اتسعت وشو بدّو يلحّق ليلحّق من لبنان لسوريا للعراق لليمن للبحرين للكويت للسعودية، فأصدر حملة تبرعات بعنوان مشروع تجهيز مجاهد، لكن اين هو المجاهد وضد من يجاهد؟ ضد المواطنين العرب السنّة والدروز والمسيحيين؟ أهذا هو الجهاد؟ أندم على كل ليرة تبرعت فيها لـ”حزب الله” عندما لم نكن واعين لمشروعه الطائفي الحقير، كنّا نظنّه يريد ان يحارب اسرائيل فاذا به يستخدم اموالنا ليحاربنا بها. نحن نساهم في قتل اطفالنا ودعم التطرف والارهاب عند نفع اي مؤسسة تابعة لهؤلاء… نتمنّى القيام بحملة مقاطعة لكافة الشركات والمؤسسات التي تساندهم حتى يعودوا الى بشريتهم وأوطانهم او يلجأوا للعيش عند من يعملون لمشروعه”.