كتب دانيال عبود:
أنا شاب وُلدت بعد إنتهاء الحرب اللبنانية عام 1990. كان من الصعب عليّ الحكم على مرحلة العصر الذهبي الاول لـ”القوات اللبنانية” في الثمانينات وتحديداً بعد العام 1985. حرب الشائعات التي شُنت منذ العام 1990 ضد “القوات” كانت كبيرة ومؤثرة، بفعل سعي النظام السوري وحلفائه في لبنان الى طبع صورة هذا الحزب وقائده بأبشع الاوصاف. ويمكن هنا الإعتراف، بأنهم نجحوا في تحميل سمير جعجع كل أوزار الحرب الاهلية، فيما أنّ هذه التهم أزيلت عن جميع الزعماء الآخرين، وهم لسخرية القدر، تبوأوا أعلى المناصب في الحكم، بينما كان جعجع “تحت سابع أرض”.
أعترف هنا، أنني من الاشخاص الذين تأثروا بحرب الشائعات، وزج اسم “القوات” في كل الاعمال السيئة، إلى درجة اعتقدت في فترة لم أكن فيها قد نضجت او اكتسبت المعرفة السياسية المطلوبة، أن “جماعة القوات” هم مجرّد قطاع طرق وصلوا الى السلطة. أعترف أيضاً، ومرة اخرى، أن سعيي الحقيقي للتعرّف على “القوات” لم يبدأ سوى بعد العام 2007. كان خروج “الحكيم” من المعتقل، دافعا لي، كي أتعرف إلى سيرة هذا الرجل. استمعت الى خطابه الاول بعد خروجه من المطار وكان عمري حينها 14 عاماً، وشعرت بأنني أريد إكمال خطابه حتى النهاية، ولو أن هذا الرجل في حينها لم يكن يعنيني لا من قريب ولا من بعيد. لكن بعد عودة “الحكيم”، وانطلاقه مجددا في العمل السياسي، زاد من تصميمي على إعادة قراءة التاريخ، ولو أنّه غير موثّق بشكل علمي تام. كذلك، حاولت المقارنة بين ما أقرأه عن الماضي، والأداء السياسي لـ”القوات” وجعجع، تحديداً في الحاضر.
قد لا يكون الحكم على الماضي من قدرتي، أولا لأنني لم أكن قد وُلدت حينها، وثانياً، لأن الحكم لا يمكن أن يكون من مجرّد قراءة كتب أو روايات قد تكون إما سلبية جدا جدا جدا او إيجابية جدا جدا جدا. لكن ما كنت على يقين منه، بشكل حاسم وقاطع، أنّ القوات كانت في صميم الوجدان الوطني الحرّ. صحيح أنّها اكتسبت صفة مسيحية لا لبس فيها، إنما لا يمكن هنا فصل الشق المسيحي عن الوطني، على اعتبار انّ الإنقسام الذي حصل في حينها كان بين خيار لبنان المستقل ولبنان الملحق. ومن دون الغوص في تفاصيل لا يريد أحد العودة اليها، زاد اقتناعي بأنّ “القوات” كانت جزءا لا يتجزأ من حماية مجتمع ينبض بالحياة عندما تشرذمت الدولة وتحوّلت الى شبه كانتونات طائفية.
وما زادني اكثر فأكثر إحتراما للحكيم، هو خطابه الشهير، الذي اعتذر فيه عن كل الممارسات التي ارتكبها افراد من “القوات”، فالحرب بشعة، وأكثر الجيوش النظامية في العالم تقع ضحية تصرفات شاذة. لكن هذا الرجل كان لديه كل الشجاعة، بعد 11 سنة في المعتقل، ان يخرج ويصارح كل اللبنانيين عن أوجاع حصلت في الحرب. شجاعة نادرة لم يتجرأ اي سياسي على التحلي بها. وحده جعجع اعتذر بكل جرأة ومصارحة ووجدانية. وكما يقول المثل “مش كل اصابعك متل بعض” وكما اخطأ بعض القواتيين، هناك قواتيون أبطال وقفوا سدا منيعاً أمام من حاول إلحاق لبنان بمشاريع إقليمية. هؤلاء القواتيون هم الأكثرية الساحقة من هذا المجتمع، وكل ما سمعته، لم يكن إلا “بروباغاندا” لم تهدف سوى لتحميل هذا الحزب وزر كل الحقبة السوداء من تاريخ لبنان لأنهم كانوا يواجهون بمفردهم في حينها نظام الوصاية، وكان يمكن لمن يشاء أن ينقضّ عليهم ويكيل لهم ما يحلو له.
في يومنا الحاضر، أحب عقلانية جعجع ومنهجيته في العمل السياسي. قائد شعبي لكن ليس شعبوي. لم يعتمد منذ خروجه من المعتقل خطابا تحريضيا ولم يزايد لكسب الشعبية. بقيت “القوات” خارج السلطة لفترات طويلة إلا انها لم تعتمد على التراشق السياسي الرخيص وبقي خطابها هادفاً ومنهجياً. كل خطوة تحسب لها ألف حساب. وهذا ما نحتاج اليه في السياسة اللبنانية. في المبادئ عامة، بقيت “القوات” على خطابها نفسه ولم تتزحزح. حتى بعد المصالحة التاريخية مع “التيار الوطني الحرّ”، ورغم كل محاولات إلباس “القوات” لباسا جديدا، حافظت على بُعدها السيادي الواضح ونظرتها إلى مسائل أساسية كسلاح “حزب الله” وسيادة الدولة وعودة المؤسسات الى العمل.
حتى أداء وزراء “القوات” باعتراف خصومها، كان في كل الحقبات شفافا وبعيدا عن الفساد.
بين الحرب والسلم، أثبتت “القوات اللبنانية” أنّها الحزب الأكثر وضوحا ومنهجية، وأنها تجسّد تطلعاتنا لدولة قوية. قد تبقى نظرة الكثيرين إلى “القوات” ضبابية، لكنّ التاريخ يسجّل لهذا الحزب تكريسه لنبض الحياة الذي لم يتزحزح حتى في اكثر الايام سوداوية بين 1990 و2005، وعاد ليستعيد الروح بين 2005 و2017. اللبنانيون ملّوا من فشل معظم الأحزاب، ولهذا السبب تشكّل “القوات” بشكلها الجديد، لكن روحها التي لم تتغيّر، النفس والزخم الجديدين في العمل السياسي، والذي سيترجم لا محالة نيابيا ووزاريا في أهم اختبار ينتظر القوات على مستوى محاربة الفساد وادخال تحسينات فعلية ومؤثرة على حياة اللبنانيين.
في الختام، أعترف أنني اصبحت من أكثر المعجبين بشخصية “الحكيم”، لكن إعجابي الأكبر هو في عمل “القوات” كحزب نطمح من خلاله إلى تخقيق تغيير حقيقي على مستوى الدولة لا الأفراد فقط.