وجه بطريرك انطاكيه وسائر المشرق الكردينال مار بشارة بطرس الراعي رسالة الصوم السادسة، الى المطارنة والرؤساء العامين والرئيسات العامات والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، وسائر أبناء الكنيسة المارونية في لبنان وبلدان الانتشار. وجاء فيها:
“1. صلاة وصوم وصدقة ثلاثة متلازمة ومترابطة، تقود مسيرتنا نحو ملكوت الله، المتجلي في السر الفصحي، سر موت المسيح لفدائنا من خطايانا، وسر قيامته من بين الأموات لتقديسنا بالحياة الجديدة (راجع 2كور5: 17).
وقد عبر القديس أغوسطينوس عن هذا الترابط المثلث بالقول: “أتريد أن تصعد صلاتك إلى السماء، فامنحها جناحين، هما الصوم والصدقة”.
2. الصوم الكبير، وما يتفرع عنه من أصوام، معروف بالصوم الفصحي. وقد رافق حياة الكنيسة منذ بداياتها، متمثلة بصوم المسيح رأسها، الذي صام أربعين يوما وأربعين ليلة في البرية (متى4: 1-11) إستعدادا لبدء رسالته الخلاصية. لكن ممارسة الصلاة والصوم والصدقة رافقت مسيرة شعب الله منذ القديم، وكان الله يدعو الشعب إليها على لسان الأنبياء.
3. لقد امتازت كنيستنا المارونية، منذ عهد أبينا القديس مارون حتى يومنا، بروحانية الصلاة والصوم والصدقة، وهذا ما جعلها تصمد بوجه كل المصاعب والتحديات. فكم من أبناء كنيستنا وبناتها نهجوا نهج التقشف والإماتة والصلاة وصنع الخير. وقد بلغ هذا النهج ذروته في حياة النساك والحبساء الذين ما انفكوا يواصلون هذا التراث من جيل إلى جيل حتى يومنا. بفضل صلواتهم وتقشفاتهم وأصوامهم والخير الروحي الذي يفيضونه بمثلهم وإرشاداتهم.
يكتسب زمن الصوم الكبير بعدا كنسيا جديدا لأنه يندرج في “سنة الشهادة والشهداء”، التي ابتدأت في عيد أبينا القديس مارون (9 شباط 2017)، وتنتهي في 2 اذار 2018، عيد أبينا القديس يوحنا مارون البطريرك الأول.
تتألف هذه الرسالة الراعوية من قسمين: الأول مفهوم الصوم وأبعاده وثماره في ضوء الكتاب المقدس؛ والثاني توجيهات للمارسة الصوم والقطاعة.
مفهوم الصوم وغايته وثماره
4. من الناحية الجسدية، الصوم هو الإمتناع عن الطعام والسوائل، ما عدا الماء، من نصف الليل حتى الظهر، والإنقطاع عن أكل اللحوم الحليب ومشتقاته والبيض في أيام محددة نذكرها في القسم الثاني من هذه الرسالة.
ومن الناحية الروحية هو قوت النفس وغذاء الروح ودواء يعطي الخلاص والتكفير عن الخطايا ويقترن بالصلاة والإماتات فيصبح الطريق المختصر للوصول إلى السماء، على ما يقول القديس أمبروسيوس.
ومن الناحية الإجتماعية، هو التصدق عينا ونقدا على المحتاجين، في مختلف حاجاتهم، كما يصفها الرب يسوع في إنجيل متى: “كنت جائعا، عطشانا، عريانا، غريبا، مريضا، سجينا” (متى 25: 35-46). لا تقتصر هذه الحاجات على البعد المادي، بل تشمل أيضا الشأن الروحي والثافي والمعنوي.
ومن الناحية الإنمائية، هو القيام بمبادرات ومشاريع توفر فرص عمل لشبابنا الطالع وسواهم.
غايته
5. الغاية من الصوم إعداد الذات للعبور مع المسيح الرب في فصحه، من حالة الخطيئة إلى حالة النعمة، “من الإنسان العتيق إلى الإنسان الجديد” كما يسميه بولس الرسول (كول 3: 9-10). أليست الطبيعة، من بعد أن تجردت أشجارها من عتيق أغصانها وورقها، تدخل زمن الربيع لتلبس ثوبا جديدا، وتزهر لكي تعطي ثمارها لحياة البشر؟ كم نحن بالحري أفضل منها (راجع متى 6: 26).
الصوم ضرورة من أجل بلوغ غايته، على ما يقول بولس الرسول: “ليس ملكوت الله أكلا وشربا، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس” (روم14: 17) وعلى ما أكد الرب يسوع للمجرب: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (متى 4: 4)؟
لا يتوخى زمن الصوم فرض أصوام وإماتات تفوق طاقتنا البشرية لأن الرب يريد “رحمة لا ذبيحة”، وأن لا تكون خياراتنا في الأطعمة والأشربة سببا للخصام مع إخوتنا لأن المحبة هي التي تجب أن تحكم أولا في كل أصوامنا. وهذا ما يعبر عنه بولس الرسول بقوله: “إن كنت من أجل الطعام تحزن أخاك، فلا تكون سالكا في المحبة. فلا تهلك بطعامك ذاك الذي مات المسيح من أجله!” (روم 14: 15). لكن ما يجب التيقظ له أيضا هو أن لا يتحول أكلنا وشربنا ليكون سبب عثرة لأخينا (روم 14: 21). بل فلتتحول كل أصوامنا لمجد الله.
6. الصوم وسيلة للإنتصار على الشيطان والجسد والأهواء الرديئة. فالرب يسوع انتصر بصيامه على تجارب الشيطان الثلاث، الذي حاول إغراءه للسقوط في شهوات العالم التي يختصرها يوحنا الرسول بثلاث (راجع 1 يو 2: 16): شهوة الجسد بتجربة تحويل الحجارة إلى خبز بقوة يسوع الإلهية، وشهوة العين بتجربة الحصول على جميع ممالك الدنيا ومجدها، وكبرياء الحياة بتجربة رمي يسوع ذاته من أعلى جناح الهيكل، فيحمله الملائكة على أكفهم لئلا تصطدم رجله بحجر (راجع متى 4: 1-11). وهكذا ترك لنا “الرب قدوة في ذاته” (1بطرس 2: 21)، لكي نسير بالصوم نحو الملكوت وننتصر على تجارب الحياة، كما يوصي القديس مكاريوس الكبير: “صوموا مع المخلص لتتمجدوا معه وتغلبوا الشيطان”.
يخبر الآباء القديسون أن الشهداء، عندما يبلغهم خبر اليوم الذي سينالون فيه إكليلهم، لا يذوقون شيئا البتة في الليلة السابقة، ولا يتناولون طعاما، ولكنهم ينتصبون من المساء إلى الفجر في الصلاة، متيقظين في شكر وحمد بتراتيل وتماجيد وتسابيح وألحان روحية شجية، مسرورين، منتعشين مترقبين تلك اللحظة، يتوقون وهم صائمون إلى ضربة السيف يكللهم بإكليل الشهادة.
في تعليم الإنجيل والكتب المقدسة
7. الصوم والصلاة والصدقة شريعة إنجيلية دعا إليها الرب يسوع في إنجيل القديس متى (6: 1-16)، كتعبير عن التوبة الداخلية، وارتداد القلب إلى الله، والرجوع عن الخطيئة. وإلا أضحت هذه الأفعال الخارجية عقيمة وكاذبة. هي التوبة الداخلية التي تدفع إلى التعبير عنها بعلامات وأفعال ومبادرات.
إن ارتداد القلب هو في البداية عمل نعمة من الله ترجع قلوبنا إليه، كما اعتاد أن يصلي الأنبياء: “أرددنا إليك يا ألله، فنرتد” (مراثي5: 21). فالله يعطينا القوة لنبدأ من جديد. عندما نكتشف عظم محبة الله، يضطرب قلبنا من هول الخطيئة وثقلها، فنخشى الإساءة إليه والإبتعاد عنه (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1432).
إن التعبير عن التوبة وارتداد القلب يظهر في إذلال الذات أمام الله، لكي يتحنن علينا. هكذا فعل داود الملك عندما مارس الصوم: “كان لباسي مسحا وكنت بالصوم أذلل نفسي (مز35: 13). وصلى: “إن ذللت بالصوم نفسي، صار ذلك عارا علي” (مز69: 11). وحين وبخ إيليا النبي الملك آحاب على انه باع نفسه للشر في عيني الرب، مزق الملاك ثيابه، وجعل على بدنه مسحا وصام في المسح ومشى رويدا رويدا (امل 21: 27).
8. يشكل زمن الصوم الكبير فترة مهمة من أزمنة السنة الطقسية، لأنه يشكل زمن تصحيح العلاقات باتجاهات ثلاثة: مع الله بالصلاة، ومع الذات بالصوم، ومع الإخوة المحتاجين بالصدقة. يدعو أشعيا النبي إلى ممارسة صوم مقبول من الله وهو: “حل قيود الشر، وفك ربط الظلم، وإطلاق المسحوقين أحرارا، وتحطيم كل استكبار. أليس الصوم، المقبول من الله، أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل البائسين المطرودين بيتك؟ وإذا رأيت العريان أن تكسوه، وأن لا تتواى عن لحمك؟ (أش58: 6-7).
9. الصوم فعل طاعة لله. ليس الصوم إبتكارا بشريا، بل هو أمر من الله، ترجمته الكنيسة في وصاياها. ويقتضي منا طاعته والإلتزام به. إن أول أمر بالإمتناع عن أكل هو الذي وجهه الله لأبوينا الأولين: “من جميع شجر الجنة تأكل. وأما من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها، تموت موتا (تك 2: 16و17). فكانت عاقبة المعصية الطرد من الفردوس (تك 3: 23).
بهذه الطاعة لأمر الله، صام موسى أمام الرب على جبل سيناء أربعين يوما وأربعين ليلة، لا يأكل خبزا ولا يشرب ماء. فسلمه الله وصاياه العشر على لوحي الحجر (خروج 34: 28). كذلك فعل إيليا النبي عندما اكتفى بالخبز والماء، مقدما صومه للرب كفعل طاعة، وهو سائر أمامه، مدافعا عن إيمانه به (1مل 19: 6-8).
والرب يسوع، عندما جاءه التلاميذ بطعام ودعوه ليأكل، أجاب: “طعامي أن أصنع مشيئة الآب الذي أرسلني، وأتم عمله” (يو 4: 34).
اعتادت الكنيسة التماس إرادة الله وعونه بالصوم والصلاة. هكذا فعل الأنبياء والمعلمون في كنيسة انطاكيه إذ فيما كانوا يقيمون ليتورجيا الرب ويصومون، قال الروح القدس: “افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي انتدبتهما له. فصاموا وصلوا، ثم وضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما”(أع13: 3). كذلك فعل بولس وبرنابا عندما أقاما بالصوم والصلاة كهنة في كل كنيسة (أع14: 23).
توجيهات لممارسة الصوم والقطاعة
10. بالإضافة إلى زمن الصوم الكبير الفصحي، توجد أزمنة أخرى ترتبط بأعياد الميلاد والرسل الاثني عشر وانتقال السيدة العذراء إلى السماء تجب فيها القطاعة فضلا عن إلزاميتها أيام الجمعة طيلة السنة باستثناء الأيام المذكورة أدناه. كما يوجد واجب الصوم القرباني.
أولا، الصوم الكبير الفصحي
11. يدوم هذا الصوم سبعة أسابيع، استعدادا لعيد الفصح. يبدأ في اثنين الرماد، وينتهي يوم سبت النور ظهرا. ويقوم على الامتناع عن الطعام من منتصف الليل حتى الساعة الثانية عشرة ظهرا، وعلى القطاعة عن اللحوم والحليب ومشتقاته والبيض.
يفسح من الصوم والقطاعة أيام السبوت والآحاد والأعياد التالية: مار مارون (9شباط) ومار يوحنا مارون (2 اذار) ومار يوسف (19 اذار) وبشارة العذراء (25 اذار) وعيد شفيع الرعية. اما في سبت النور فيبقى الصوم والقطاعة إلزاميين حتى الثانية عشرة ظهرا.
يعفى من الصوم والقطاعة على وجه عام المرضى والعجزة الذين يفرض عليهم واقعهم الصحي تناول الطعام ليتقووا وخصوصا أولئك الذين يتناولون الأدوية المرتبطة بأمراضهم المزمنة والذين هم في أوضاع صحية خاصة ودقيقة، بالإضافة إلى المرضى الذين يخضعون للاستشفاء المؤقت أو الدوري. ومعلوم أن الأولاد يبدأون الصوم في السنة التي تلي قربانتهم الأولى، مع اعتبار أوضاعهم في إيام الدراسة.
إن الذين يعفون من شريعة الصوم والقطاعة مدعوون للاكتفاء بفطور قليل كاف لتناول الدواء.
ونظرا لمقتضيات الحياة وتخفيفا عن كاهل المؤمنين والمؤمنات، تبقى شريعة القطاعة إلزامية، في الأسبوعين الأول والأخير من الصوم الكبير، على أن يعوض من لا يستطيع الالتزام بالقطاعة في الأسابيع الأخرى بأعمال خير ورحمة.
ثانيا، صوم الرسولين بطرس وبولس والرسل الاثني عشر
12. هذا الصوم معروف “بقطاعة الرسل”، فيقوم على القطاعة عن اللحوم والحليب ومشتقاته والبيض، من 17 إلى 28 حزيران.
ثالثا، صوم انتقال السيدة العذراء
13. هذا الصوم معروف “بقطاعة السيدة”، ويقوم على القطاعة عن اللحوم والحليب ومشتقاته والبيض من 7 آب، بعد عيد الرب إلى 14 منه.
رابعا، صوم الميلاد
14. يقوم هذا الصوم على القطاعة عن اللحوم والحليب ومشتقاته طيلة فترة تساعية الميلاد التي تمتد من 16 إلى 24 كانون الأول.
خامسا، القطاعة يوم الجمعة
15. تقوم هذه القطاعة على الإمتناع عن أكل اللحوم والحليب ومشتقاته والبيض كل يوم جمعة على مدار السنة.
يستثنى يوم جمعة أسبوع المرفع، وأيام الجمعة الواقعة بين عيدي الفصح والعنصرة، وبين عيدي الميلاد والدنح. وتستثنى أيام الجمعة التي تقع فيها الأعياد التالية: ختانة الطفل يسوع (أول كانون الثاني)، عيد مار أنطونيوس الكبير (17 كانون الثاني)، دخول المسيح إلى الهيكل (2 شباط)، عيد مار مارون (9 شباط)، عيد مار يوحنا مارون (2 آذار)، عيد مار يوسف (19 آذار)، عيد بشارة العذراء (25 آذار)، عيد القديسين الرسولين بطرس وبولس (29 حزيران)، عيد الرسل الإثني عشر(30 حزيران)، عيد التجلي (6 آب)، عيد إنتقال العذراء (15 آب)، عيد قطع رأس يوحنا المعمدان (29 آب)، عيد ميلاد العذراء (8 أيلول) عيد إرتفاع الصليب المقدس (14 أيلول)، عيد الحبل بسيدتنا مريم العذراء بلا دنس (8 كانون الأول)، عيد ميلاد الرب يسوع (25 كانون الأول)، عيد شفيع الرعية، عيد قلب يسوع.
سادسا، الصوم القرباني
16. هو الإنقطاع عن الطعام إستعدادا لتناول القربان الأقدس خلال الذبيحة الإلهية، أقله ساعة قبل بدء القداس الإلهي للمحتفل، وساعة قبل المناولة للمؤمنين، هذا بالإضافة إلى حالة النعمة والحشمة في اللباس والتخشع، واستحضار المسيح الرب الحاضر تحت شكلي الخبز والخمر.
الخاتمة
17. يكتسب زمن الصوم الكبير بعدا إضافيا في “سنة الشهادة والشهداء”. فهو موسم إداء الشهادة لإيماننا المسيحي من خلال توبة القلب الظاهرة خارجيا في الصوم والصلاة والصدقة. لكنها تظهر أيضا في الجديد من مسلكنا وتصرفاتنا وطرق تعاملنا مع الناس، وفي القيام بالواجب وممارسة المسؤولية. كتب مار افرام السرياني عن صوم موسى: “لقد صام فاستنار وصلى فانتصر. صعد بلون ونزل بلون آخر. صعد بلون أرضي ونزل لابسا بهاء سماويا. كان له صومه بهجة، وصلاته ينبوع ماء حي. وهو رجل الفطنة، وصومه صوم غفران”.
بمثل هذا الصوم ننطلق لنشهد لإيماننا ونبني مجتمعا قائما على القيم الإنجيلية والأخلاقية والإنسانية، بشفاعة أمنا مريم العذراء وأبينا القديس مارون”.