كتبت فيفيان عقيقي في صحيفة “الأخبار”:
منذ بدء تطبيق قانون السير الجديد في نيسان 2015، تغيب أي استراتيجيّة وطنيّة علميّة عن عمل المولجين بتطبيق القانون، لتحقيق الأهداف الرادعة التي أوجد لأجلها، وتسعى إلى تغيير سلوك السائقين بما يرفع مستوى الأمان على الطرقات، لتصبّ في المقابل في صالح تكثيف جباية الغرامات، التي يبلغ معدّلها نحو ألف غرامة تسطّر يومياً، غالباً ما تطال مخالفات من نوع القيادة دون دفع رسوم الميكانيك والتوقف في الأماكن الممنوعة وغيرها، وتصبّ النسبة الأكبر من عائداتها في صناديق خاصّة للقضاة وقوى الأمن الداخلي، بدلاً من الاستفادة منها لصيانة الطرقات وتطوير معايير السلامة المروريّة.
رفض مجلس النواب في جلسته التشريعيّة الأخيرة النظر باقتراح معجّل مكرّر حول مشروع قانون قدّمه النائب، سيرج طورسركيسيان، ويقضي بتعديل المادّة 374 من قانون السير رقم 243، لتخفيض الغرامات المُترتبة عن المخالفات المروريّة بنسبة 50%، والتي تعدُّ من الأعلى في المنطقة نسبة إلى الحد الأدنى للأجور. حسناً لم يُعبّر غالبية النواب عن رفضهم الاقتراح صراحة، وإنّما أُحيل مشروع القانون إلى مقبرة المشاريع، أي إلى لجنة برلمانيّة، بحجّة دراسته قبل البتّ به.
يستند طورسركيسيان في طرحه إلى كون الوضع الاقتصادي لم يعد يسمح بترتيب ضغوط إضافيّة على المواطن اللبناني، مشيراً إلى أنه “من أصل أكثر من 400 مادة يتضمّنها قانون السير الجديد، لم تُطبّق إلّا مادة فرض الغرامات”. عملياً، يُعدُّ الطرح، وفق الصيغة التي قُدّم بها، شعبوياً أكثر من كونه علمياً مستنداً إلى دراسات، كان من المُفترض إعدادها في المجلس الوطني للسلامة المروريّة المعطّل والمولج بحسب القانون باقتراح تعديل القانون، وهو ما يجعل الرفض مصيره بحجّة أن هذه الغرامات المُرتفعة ساهمت في خفض عدد القتلى على الطرقات، من 655 قتيلاً عام 2014 إلى 575 قتيلاً عام 2015، مع الإشارة إلى أن السبب الحقيقي في ذلك، وفق مدير الأكاديميّة اللبنانيّة للسلامة المروريّة LIRSA، كامل ابراهيم، هو “الحملة الإعلاميّة التي رافقت بدء تطبيق القانون الجديد، وتواجد القوى الأمنيّة على الأرض، إضافة إلى البيانات الدوريّة التي تصدر حول السلامة المروريّة. وهي نتيجة مُشابهة لنتائج أخرى مُحقّقة في ظلّ قانون السير القديم الذي لم يكن يلحظ غرامات مرتفعة”.
نظريّة تثبّتها الأرقام الموثّقة خلال 16 عاماً، والتي سجّلت انخفاضاً في عدد القتلى في عام 2005 نتيجة الوضع الأمني والتظاهرات التي رافقت اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وفي عامي 2008 و2011 خلال عهد وزير الداخليّة والبلديّة الأسبق زياد بارود الذي أعطى أولويّة لملف السلامة المروريّة، وفي عام 2015 مع بدء سريان قانون السير الجديد والتشدّد بتطبيقه. بحسب ابراهيم: “لم تتخطّ فعاليّة الردع نسبة الـ30% مع بدء تطبيق قانون السير الجديد، عكس ما كان هو متوقّعاً”، ويعود ذلك إلى كون تطبيق القانون يتمّ “عشوائياً ومن دون استراتيجيّة وطنيّة، وخطّة واضحة مبنيّة على أهداف محدّدة”.
839 ألف مخالفة
في نيسان المقبل، يدخل تطبيق قانون السير الجديد رقم 243/2012 سنته الثالثة، وخلال الفترة المُمتدة من 22/4/2015 ولغاية 1/2/2017 نُظّم نحو 839 ألفاً و667 محضر مخالفة في مفارز السير حصراً، وهو رقم قابل للارتفاع كونه لا يشمل المحاضر المُنظّمة في القطعات الإقليميّة (أي في المخافر والفصائل لعدم وجود آليّة لإحصاء الغرامات وتوثيقها). وتقدّر عائدات هذه المُخالفات بنحو 167 مليار و933 مليون و400 ألف ليرة لبنانيّة، في حال افترضنا جبايتها كاملة بمعدّل وسطي بقيمة 200 ألف ليرة لبنانيّة للغرامة الواحدة، باعتبار أن قيمة الغرامات تتراوح بين 100 ألف ليرة لمخالفات الفئة الأولى و3 ملايين ليرة لمخالفات الفئة الخامسة. وتتوزّع بحسب المادة 401 من القانون 243 بين صندوق الاحتياط في قوى الأمن الداخلي بنسبة 25% من حاصل كامل الغرامات، والبلديات بنسبة 20%، وصندوق تعاضد القضاة بنسبة 30% من الغرامات المحصّلة بموجب أحكام قضائيّة، والصندوق التعاوني للمساعدين القضائيين بنسبة 25% من الغرامات المحصّلة بموجب الأحكام القضائيّة، وتحوّل النسب المتبقية إلى خزينة الدولة. هكذا خصّص المشترع اللبناني الجهات المُولجة بتطبيق القانون بعائدات الغرامات التي تفرضها على المواطن، مع ما قد يتبع ذلك من استنسابيّة وتجنٍّ بفرضها، لتأمين مداخيل أعلى للصناديق الخاصّة بالقضاة وقوى الأمن الداخلي، بدلاً من تخصيص هذه العائدات لتحسين معايير السلامة المروريّة بما تتضمّنه من صيانة طرقات، وتجهيزها بإنارة وإشارات سير وحواجز فاصلة، وتعزيز قدرات القوى الأمنيّة لتفعيل تطبيق القانون.
قانون لجباية الأموال
قامت روحيّة قانون السير الجديد على نظريّة الردع التي تعتمد على 1- سرعة تنفيذ العقوبة. 2- الغرامات المُرتفعة. 3- عدم الإفلات من العقاب. 4- اعتبار المواطن أن القانون يصبّ في مصلحته. وذلك بغية تحقيق الأهداف الكامنة في تغيير سلوكيّة السائقين أولاً والحدّ من الحوادث تالياً. لكن هذه الأهداف لم تتحقّق، بحسب ابراهيم، كون “سرعة تنفيذ العقوبات نسبيّة نظراً إلى غياب المكننة وتدوين المخالفات يدوياً، مع ما يتبع ذلك من بطء في تبليغ المُخالفين وغياب العناوين الصحيحة لإيصال البلاغات. إضافة إلى تحكّم المحسوبيّات في إلغاء المخالفات، ولأن المواطن لا يرى في القانون إلّا مصدراً جديداً لجباية الأموال لصالح الخزينة دون أن ينعكس ذلك على السلامة المروريّة”.
لا يُعدُّ الفساد الإداري، وغياب السلامة المروريّة عن أولويات الأجندة السياسيّة، وعدم تفعيل المجلس الوطني للسلامة المروريّة المولج بإعداد الدراسات ووضع الاستراتيجيات، وتوزيع عائدات الغرامات على صناديق القضاة والأمنيين، العوامل الوحيدة التي تحول دون ردع المواطنين عن مخالفة القانون. إن ارتفاع قيمة الغرامات، بحدّ ذاتها، يجعل تطبيقها أمراً غير قابل للتحقيق لكونها تطال جميع الشرائح في المجتمع، بما فيها الفقيرة، وتوسع مروحة الرشوة أو تفتح الباب أمام التغاضي عن تطبيقها وخصوصاً عندما تتعلّق بسلامة الفرد، ومثال على ذلك مخالفة عدم وضع حزام الأمان التي تندرج ضمن الفئة الثالثة وتتراوح غراماتها بين 350 و450 ألف ليرة، وسجّل في أقل من عامين نحو 14 ألف محضر، والمخالفات المتعلّقة بسلامة الأطفال (مثل وضعهم في كرسي الأطفال ونقلهم عبر الدرّاجات الناريّة) وتندرج ضمن الخانة نفسها ونادراً ما تُطبّق.
يعتبر ابراهيم أن “خفض هذه المخالفات من الفئة الثالثة إلى فئات أدنى أو حجز المركبة وتطبيق القانون بفعاليّة أكبر، يُسهم في ردع المخالفين دون أن يزيد الأعباء الاقتصاديّة المُلقاة على كاهل المواطن. ويقابل ذلك، حاجة إلى تخفيض بعض الغرامات التي لا تصبّ في خانة تحسين معايير السلامة المروريّة وإنّما تسهم في تنظيم السير، مثل ركن المركبة في أماكن ممنوعة أو على الأرصفة لعدم وجود مواقف كافية في المدن، والتي تتراوح غرامتها بين 100 و150 ألف ليرة، وسجّل خلال أقل من عامين أكثر من 130 ألف محضر. إضافة إلى التفاوت في تطبيق القانون بين المناطق بما لا يحقّق المساواة وخصوصاً مخالفات السرعة الزائدة نظراً إلى غياب الرادارات والكاميرات، أو قيادة السيارة من دون رخصة أو أوراق قانونيّة”. تحليلاً للوقائع والأرقام يشير ابراهيم إلى أن “المولجين بتطبيق قانون السير هدفهم الحدّ من زحمة السير وتنظيم المرور في المدن بدلاً من تغيير سلوكيّة المواطن، والدليل يكمن في الأرقام العالية المُسجلة في خانة ركن السيارات في الأماكن الممنوعة، مقابل انخفاض هذه الأرقام في خانات أخرى متعلّقة بسلامة الأطفال والأفراد”.