كتب شادي علاء الدين في صحيفة “العرب” اللندنية:
يدفع حزب الله بقوة في اتجاه إقرار قانون النسبية الكاملة على أساس أن لبنان دائرة انتخابية واحدة. ويدافع عن خياره بالإيحاء بأن هذا القانون وحده يستطيع أن يمنح المسيحيين المناصفة الفعلية على الرغم من أن نسبتهم لا تتجاوز الـ36.4، كما تؤكد دراسات حرصت وسائل إعلام الحزب على إبرازها مؤخرا.
وتشير بعض المصادر إلى أن رئيس تيار المستقبل رئيس الوزراء سعد الحريري أبدى انفتاحا على قبول هذا القانون لأن نتائج الدراسات التي قدمت له كشفت أن خوضه الانتخابات على أساسه سيؤمن له كتلة نيابية جيدة ويضمن إقصاء خصومه السنة.
وتدعم كتلة رئيس مجلس النواب نبيه بري هذا القانون على الرغم من إبدائه انفتاحا على قبول قوانين أخرى، ولكن قانون النسبية يبقى الإطار الذي يجمع بينه وبين حزب الله والتيار الوطني الحر.
وحرص التيار الوطني الحر في الآونة الأخيرة على فصل موقفه من القانون عن موقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، حيث أن الرئيس عون يبدي انحيازا إلى قانون النسبية في حين أن التيار الوطني الحر يبدي بعض التحفظات عليه في مشهد يعتبره مراقبون مجرد عملية توزيع للأدوار.
تبدو إمكانية فرض هذا القانون كبيرة في ظل الحضور الفاعل لحزب الله وإمساكه بزمام القرار اللبناني، وربما تكون القوى السياسية العاجزة عن مواجهته تعتبر أن السير معه في إقرار القانون الذي يريده يؤمّن عملية حصر للخسائر. ولعل أبرز دليل على ذلك أن خطابات الرفض لا تنطلق من عناوين سياسية عريضة بل تكاد تلامس حدود الخطاب اليائس وغير المرتبط بأيّ خطة مواجهة.
وأطلق النائب وليد جنبلاط، الذي كان قد شن مؤخرا هجوما عنيفا على قانون النسبية معتبرا أنه يمثل حالة إقصاء للمكون الدرزي، مؤخرا تصريحا يمكن وصفه بالشعري واليائس إذ قال “المهم في الجبل هو التأكيد على الشراكة مع القوات والتيار والكتائب وحزب الله وحركة أمل والجماعة الإسلامية”.
كتلة القوى التي شملها تصريح جنبلاط تكاد تشمل كل خريطة القوى اللبنانية الفاعلة ما يؤشر إلى أن الزعيم الدرزي بات مقتنعا أنه لم يعد قادرا على لعب دور “بيضة القبان”.
وكان هذا الدور يمنحه حضورا بارزا وقدرة على اللعب والانتقال من طرف إلى طرف، والحصول على مكاسب كبرى في كل إعادة تموضع، ولكنه انتهى مع سقوط ثنائية 8 آذار و14 آذار، واقتصار الحضور الفاعل على فريق حزب الله وحلفائه.
إذن قد يكون الحزب نجح في تفكيك كل الاعتراضات الممكنة على مشروعه. وكان لافتا أن الدعاية التي رسم من خلالها الحزب عناوين عريضة لقانون النسبية الكاملة تصوره بوصفه تضحية كبرى من الحزب يقدم عليها من أجل المصلحة العامة على الرغم من أنها لا تتناسب مع مصالحه وتؤدي إلى ضمور في حجم كتلته النيابية.
لا تنسجم دعاية حزب الله مع ما يكشفه التمحيص الدقيق والقراءة المعمقة في المآلات التي يمكن أن يتسبب بها إجراء الانتخابات على أساس النسبية الكاملة في ظل السلاح الذي يشكل ثقلا انتخابيا وازنا في ظل أيّ قانون.
يجعل هذا السياق من النسبية الكاملة ممرا إلزاميا لتحقيق المشروع الأساسي للحزب وهو المؤتمر التأسيسي الذي يتضمن إعادة هيكلة تامة للبنية السياسية للبلد.
شبكة التداعيات التي يمكن أن ينتجها قانون النسبية الكاملة تؤمّن عملية انتقال كاملة للحزب من القوة المباشرة إلى الشرعية وذلك يضمن تفكيك كل بنى القوى السياسية الكبرى والقوى التي لا تدور في فلكه. يضمن له كذلك خلق شبكة مواجهة متينة للمناخ الدولي الذي أبدى استياءه من تصريحات رئيس الجمهورية حول شرعية سلاح حزب الله.
يقول إعلام الحزب إن النسبية تلائم مصالح زعيم تيار المستقبل لأنها لا تؤدي إلى تقليص حجم كتلته النيابية بشكل كبير. ولكن الرقم الذي يقول إعلام الحزب أن الحريري سيحصل عليه عبر النسبية وهو 27 أو 28 نائبا، يعني أن الحريري سيخسر في كل الأحوال 6 نواب من حجم كتلته.
تلك الخسارة تعني أن هناك كتلة سنية أخرى ستتشكل من نواب سنة يؤيدون الحزب، كما أن النسبة التأهيلية التي يفترضها القانون النسبي بصيغته الموسعة والتي تبلغ 10 بالمئة يعني أن إمكانية حصول وزير العدل السابق أشرف ريفي على كتلة نيابية من عدة نواب واردة بشكل كبير. هذا الاختراق الكبير لحصرية تمثيل الحريري للمكوّن السنّي يحوّله من ناطق باسم مكوّن أساسي في البلد إلى واحد من كثيرين، وذلك حتى إذا بقيت كتلته هي الكتلة السنيّة الأبرز، ولكن تفكيك القرار السنّي يكون متحققا عبر تعدد الأصوات وتناقضها.
الأثر على الساحة المسيحية ربما يكون مختلفا في طبيعته عن الأثر في الساحة السنية لأن المتوقع أن يدعم الحزب حلفاءه المسيحيين من خارج الثنائية وأن يقتصر دعمه على اللوائح التي يشكلها التيار الوطني الحرّ دون القوات اللبنانية.
يرجّح أن ينتج هذا المسار تعزيزا لحضور التيار الوطني الحرّ النيابي وضمورا في حجم كتلة القوات وبروز ممثلين مسيحيين من صفوف التيارات الموالية مباشرة للحزب من قبيل المردة والقومي والبعث.
ولم يكن بريئا أن يعمد الحزب مؤخرا إلى نشر إحصاءات تفيد أن وزن المسيحيين في البلد لا يتجاوز الـ36.4 بالمئة. وتاليا فإن الخطاب الذي يضمره هذا البعد الإحصائي يقول إن حصة المسيحيين بكل تياراتهم لا يجب أن تتجاوز هذا الرقم، ولكن الحزب يصر على الرغم من ذلك على منحهم المناصفة من خلال التحالف معهم. البعد الخطير في هذا المنطق أنه يفرض عملية نقل شرعية التمثيل المسيحي والمناصفة من الدستور واتفاق الطائف إلى التحالف مع الحزب.
ينسحب التأثير السلبي على حضور النائب وليد جنبلاط حيث يرجّح أن يفقد النواب المسيحيين في كتلته وأن تتقلص كتلته النيابية، ويعاد توزيع التمثيل الدرزي بينه وبين منافسيه في الساحة الدرزية من قبيل النائب طلال أرسلان والوزير السابق وئام وهاب.
ستحافظ الكتلة الشيعية على تماسكها بشكل تام وذلك لأن السلاح يمنع نشوء أي احتجاج فعلي داخل الطائفة الشيعية التي أغلق الحزب مناطقها بشكل تام على مشهد سيطرته المطلقة على كل تفاصيل العيش فيها وليس على توجهها السياسي وحسب.
لا يشك كثيرون أنه لا يمكن لأيّ لائحة أن تتشكل في وجه الحزب وتحصل على النسبة التأهيلية أي الـ10 بالمئة، لأن الحزب قادر على تأليف عدة لوائح ودعمها بشكل يضمن حصولها على كامل الحصة الشيعية النيابية في كل المناطق.
لم تكن تصريحات الرئيس عون حول ضعف الجيش اللبناني الذي يستوجب الاعتماد على سلاح حزب الله عابرة، بل أثبتت التطورات أنها تأتي في إطار مشروع متكامل لا يهدف إلى شرعنة سلاح الحزب وحسب بل إلى تحويله إلى السلاح الشرعي الأساسي في البلد.
وكانت ردود الأفعال الدولية قد توالت على موقف رئيس الجمهورية وكان آخرها ما أدلت به السفيرة الأميركية في لبنان إليزابيت ريتشارد من أن الرئيس عون تجاوز الخطوط الحمراء، كما رشحت بعض المعلومات التي تفيد بوجود نية لسحب قوات اليونيفيل من لبنان كردة فعل على مواقف الرئيس.
كان سعد الحريري قد حاول تجنب ردة فعل على مواقف الرئيس عون أمام مسؤول لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي روبرت كوكر حيث قال له إن من يحدد سياسات لبنان الخارجية هو مجلس الوزراء، ومن يتحدث باسم المجلس هو رئيسه وأكد له بناء على ذلك التزام لبنان بالقرارات الدولية وأهمها القرار 1559 والقرار 1701.
وكانت بعض المؤشرات قد برزت لناحية ميل أميركا للإبقاء على القيادات الأمنية الحالية في مواقعها وخصوصا في موقع قيادة الجيش حيث يحظى قائد الجيش الحالي جان قهوجي بمكانة لبنانية وعربية ودولية عالية في مجال مكافحة الإرهاب.
اللافت أن الاستعصاءات اللبنانية العامة في شأن قانون الانتخاب لم تنسحب على التعيينات الأمنية، إذ يرجح أن تقر شبكة تعيينات أمنية وأبرزها تعيين قائد جديد للجيش هو جوزيف عون الذي رشحه رئيس الجمهورية وأن يبقى اللواء عباس إبراهيم على رأس جهاز الأمن العام بعد تقديمه استقالته ليعاد تعيينه في منصبه بصفته المدنية.
وترتبط التعيينات الأمنية بالرد على المواقف الدولية المنتقدة لتصريحات الرئيس عون وخصوصا المواقف الأميركية، ومواقف الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة سيغريد كاغ.
النجاح المتوقع لتمرير التعيينات الأمنية في جلسة وزارية ستعقد منتصف الأسبوع القادم بعد أن كان هذا الملف مستعصيا، لا يعني سوى أن الحزب قرر الانتقال إلى مرحلة جديدة من مشروع السيطرة التامة على البني الشرعية في البلد.
ويتكامل مشروع التعيينات الأمنية الجديدة مع ما يتوقع أن يتيحه قانون النسبية الكاملة ليخلق مناخا يرد على النزعات الدولية الرافضة لسلاح حزب. ويمكن أن ينتقل التكامل الذي يروّج له الحزب بين سلاحه وسلاح الجيش اللبناني من كونه خطابا سياسيا دعائيا ليتحول إلى خطاب مشرعن قانونيا.
من ينتج الشرعيات ويقر القوانين هو المجلس النيابي والحزب يسعى في المرحلة القادمة إلى بلورة قوته العارية القائمة على السلاح في تركيب مشهد يعقد المواجهة معه، ليس على المستوى المحلي وحسب، ولكن على المستوى الإقليمي والدولي كذلك.
وجود قيادة للجيش منسجمة مع خطابه ورئيس جمهورية يمنحه الشرعية إضافة إلى امتلاكه أكثرية نيابة واضحة في المرحلة القادمة ستحول خطاب السلاح من محل سجال إلى موضوع خارج النقاش. لن يعود صعبا على الإطلاق تركيب منظومة تشريعية وقانونية تجعل سلاح حزب الله جزءا من سلاح القوى الأمنية الشرعية في لبنان أو خلق شرعية مبنية على منطق يوحد بين سلاحه وسلاح الجيش اللبناني.
وتردد المواقف الإسرائيلية أصداء هذه التطورات حيث أشارت مصادر أمنية إسرائيلية وصفت بأنها رفيعة المستوى لصحيفة معاريف “أنّ الجيش اللبناني سيقاتل إلى جانب حزب الله في حال حصول مواجهة أخرى بين لبنان وإسرائيل”. وأشارت الصحيفة إلى أن “الجيش اللبناني يخضع لإمرة الرئيس اللبناني ميشال عون الذي بات يتعاون مع حزب الله وأبدى تأييده له”.
تؤكد هذه السياقات أن مشروع حزب الله القاضي بربط حضوره في المرحلة القادمة بأمن إسرائيل وتحويل لبنان إلى ورقة تفاوضية قد وضع على سكة الإنجاز، وأن كل ما يجري في البلد في هذه الفترة لا يعدو كونه مجرد تفاصيل تصب في خدمة هذا المشروع.
يتكامل الأمني مع التشريعي كي يصير ممكنا عبر قانون النسبية الكاملة من خلال خلق صيغة تدخل البلد بالكامل في زمن الوصاية الإيرانية عبر الحزب وتحوله إلى ساحة لتبادل الرسائل بينها وبيت إدارة ترامب والأمم المتحدة وإسرائيل والغرب.
وإذا كانت المناخ الأميركي الذي يعلي من سقف المواجهة مع إيران مرتفعا هذه الفترة ويوحي بخلاف مع روسيا في إدارة ملف العلاقات مع إيران فإن ذلك يمهد ليس لمواجهة أميركية روسية تصب في صالح تمكين العلاقات الروسية الإيرانية، بل لصالح تركيب اتفاق تقاسم نفوذ أميركي روسي من شأنه أن يقصي كل اللاعبين الثانويين عن الساحة وخصوصا إيران.
هكذا لا يعود أمام إيران سوى الساحة اللبنانية لتطلق من خلالها الرسائل وتخوض المواجهات وتحسّن شروط المفاوضات، وقد أثبتت تجربة التعاطي الدولي مع الأسد الذي لازال يعتبر ممثلا لدولة شرعية على الرغم من كل ما جرى في سوريا، أن الغرب مولع بالشرعيات بغض النظر عن الخلفية التي انتزعت فيها.
من هنا يبدو أن إيران استوعبت الدروس الدولية جيدا وهي تميل إلى اللعب مع المنظومة الدولية كلها انطلاقا من ثوابت الممارسة السياسية خلال كل هذه الفترة من عمر الأزمات المشتعلة في المنطقة وخصوصا التعامل مع الأزمة السورية التي دخلت عامها السابع.
لا بد أن يصبح حزب الله هو الشرعية في لبنان وليس السلطة وحسب، وساعتها قد لا يجد المجتمع الدولي بدا من التفاوض معه والاعتراف به.
ويحتاج سيناريو المناطق الآمنة الذي يلوح في الأفق، والذي يضمن إبعاد شبح تدفق اللاجئين إلى الغرب، إلى تنسيق مع الأطراف الفاعلة في المنطقة والمنخرطة في صراعاتها بشكل مباشر. كذلك لا يبدو أن نيل الشرعية بالتغلب يشكل عائقا أمام نيل الاعتراف، والدليل على ذلك هو نجاح المنظمات الدكتاتورية في المنطقة في انتزاع شرعية قائمة على المفاضلة بينها وبين الإرهاب.
في لبنان هناك إرهاب جاهز وحاضر للتحرك حسب الطلب، يختفي فترة ثم يعاود الظهور. لا يبدو أن هذه الدورة ستتوقف خلال زمان سيطرة الحزب الذي يرجّح أن تنتج عبر النسبية الكاملة مؤتمرا تأسيسيا للبلد يجعله بلدا مقاوما محاربا للإرهاب وفق التوصيفات التي يحددها الحزب له، وبلدا للثورة الدائمة تستعمله إيران لتحسين شروط تفاوضها مع العالم والتي تؤمن انتقالها السلس من الثورة إلى الدولة.