كتب حسن عليق في صحيفة “الأخبار”:
يفاجئ موقف التيار الوطني من قانون الانتخاب الكثير ممن لا يكنّون له العداء. في الدرجة الاولى، يبدو التيار كمن يتبارى مع نفسه في اقتراح العدد الأكبر من مشاريع القوانين. وفي هذا المجال تحديداً، الكثير يُفسِد بدل أن يُصلح.
قانون الانتخابات هدفه سياسي وطني، ما يعني أن الأسئلة بشأنه تنطلق من سبب حاجتنا اليه:
هل نسعى إلى تثبيت حصص القوى الطائفية، أم تحقيق التمثيل داخل كل تكتل طائفي، أم تشجيع القوى غير الطائفية تمهيداً لإلغاء الطائفية السياسية؟
هل نفتح الباب أمام تطبيق اتفاق الطائف، ورفع مستوى مشاركة المرأة في الحياة السياسية أم.. أم…؟
الأجوبة كثيرة، ولكل منها مشروع قانون انتخابي أو أكثر. لكن المشكلة في التيار الوطني نفسه، وهو الذي شكّل علامة فارقة في الحياة السياسية خلال العقد الأخير. فالتيار مطالَب أكثر من غيره بتقديم أداء مختلف عن باقي القوى، لكنه يبدو كمن يسير بلا بوصلة.
كلام رئيس الجمهورية العماد ميشال عون واضح لجهة وضع أهداف وطنية غير طائفية لقانون الانتخاب، بمعيارين اثنين يكادان يتكرران في كل مواقفه: تمثيل الأقليات داخل الطوائف (ما يعني تخفيف حدة التوتر بين الكتل الطائفية الكبرى، وإفساح المجال أمام القوى العابرة للطوائف لدخول مجلس النواب…)، والحفاظ على مقتضيات الوفاق الوطني (أي تطبيق الطائف). المفارقة أن التيار قدّم اقتراحات متعددة، بعضها متناقض الاهداف، لكنها لا تتطابق جميعها مع شعارات الرئيس عون الواضحة.
حتى اللحظة، المشترك في مواقف قيادة التيار يقتصر على «تأمين حقوق المسيحيين». وهنا الطامة الكبرى. فحتى لو نظر اللبنانيون إلى الأمر من زاوية طائفية، فإن رفع شعار حقوق المسيحيين، تماماً كما رفع شعار «حقوق» أي طائفة من الطوائف، لن يؤدي سوى إلى إبعاد البلاد أكثر فأكثر عن الانتقال نحو إلغاء الطائفية السياسية. ورأفة بالمسيحيين قبل غيرهم، فإن واجب التيار القتال من أجل فتح كوّة في الجدار الطائفي.
في دراسة الخبير كمال فغالي الأخيرة (نشرت «الأخبار» جزءاً منها يوم السبت الماضي)، تظهر أرقام شديدة الخطورة بشأن الواقع الديموغرافي للكتل الطائفية في لبنان. وإذا كان معروفاً أن عدد المسيحيين، على لوائح الناخبين، بات قريباً من ثلث عدد اللبنانيين (36.4 في المئة بحسب الدراسة)، فإن التعمّق في هذه الأرقام يظهر وقائع يجدر التوقف عندها:
في الفئة العمرية (21 سنة ــ 25 سنة)، تبلغ نسبة المسيحيين 24.5 في المئة، في مقابل 75.5 في المئة من المسلمين. و»التفوق العددي» للمسلمين على المسيحيين يزداد حدة لدى اللبنانيين الذين تقلّ أعمارهم عن 21 عاماً. ماذا يعني ذلك؟
يمكن استخدام هذه الأرقام للتخويف، ولرفع شعارات لا تؤدي سوى إلى مزيد من التقوقع. لكن المؤمل أن تكون حافزاً لإرساء قواعد العلمنة الشاملة، حمايةً لحقوق المواطنين جميعاً. والكلام هنا ليس شعراً وطنياً ساذجاً. البلاد بحاجة إلى برنامج عمل واضح، أولويته خفض منسوب التوتر المذهبي، وتشجيع القوى غير الطائفية على الانخراط في المؤسسات. أما البقاء في الدائرة نفسها، وتكرار المواقف بشأن «حقوق الطوائف»، فسيمهّد الطريق أمام مطالبات مستقبلية بمنح كل طائفة حقها، نسبة إلى عددها. وربطاً بقانون الانتخاب، لا بد هنا من التذكير بأن العودة إلى «الستين»، المشكو من إجحافه بحق المسيحيين اليوم، جرت عام 2008 تحت مظلة «استعادة حقوق المسيحيين». والخشية اليوم هي من الذهاب نحو إقرار قانون جديد، بالشعار نفسه، لنعود بعد الانتخابات إلى النغمة ذاتها: نريد قانوناً يُعيد للمسيحيين حقوقهم.
معارضة قيادة التيار الوطني الحر لاعتماد النسبية الشاملة مع اعتماد لبنان دائرة واحدة، خطوة مخيّبة للآمال. حتى ذريعتا «الحفاظ على حقوق المسيحيين»، وتمكينهم من الإتيان بالعدد الأكبر من النواب «بقوتهم الذاتية»، لن تمنعا إحباطاً محتملاً لكل من راهن على الجنرال عون، وقدرته على أخذ المجتمع إلى «حيث لا يجرؤ الآخرون» فعلاً.
وبعد بوادر قبول تيار المستقبل بقانون انتخابي يعتمد النظام النسبي مع جعل لبنان دائرة واحدة، تظهر فرصة لا يجوز للتيار الوطني الحر التفريط فيها. ولا يحق لأحد هنا التذرع بأن «الآخرين متقوقعون طائفياً»، وبالتالي «علينا الحفاظ على حقوقنا». وأكثر ما يدفع إلى التحسّر هو أن الفرصة متاحة أكثر من أي وقت مضى (وربما، لن تتكرّر هذه الفرصة)، بسبب وجود رئيس قوي للجمهورية، هو العماد عون، القادر على إجراء نقلة نوعية في الحياة السياسية. ولهذا السبب بالذات، يجدر تذكير الوزير جبران باسيل بأن هذه البلاد تحتاج إلى من يقوم بمغامرات محسوبة، لجعلها مكاناً قابلاً للبقاء فيه، لا إلى متقوقعين يتذرعون بالدفاع عن حقوق بيئة قد تصبح من حكايا التاريخ!