كتب وسام ابو حرفوش في صحيفة “الراي” الكويتية:
… في بيروت، يختلط «الحابل بالنابل». فهذه المدينة التي لا تتجاوز مساحتها 18 كيلومتراً مربعاً، يسْكنها «العالم» بأسره وتتعايش فيها أهوال الشرق والغرب مع الأحوال البائسة لنحو مليونيْن من سكانها… ها هي ملّتْ ألقابها، فلم تعد «ستّ الدينا» بعدما صارتْ أشبه باستوديو سياسي «هشّ» في الهواء الطلق، وأصبح حاضرها يستحي من ماضيها يوم كانت «أمّ الشرائع»… لقد أصابها الخواء عندما أَغْوَتْها الشعْبوية التي تهوى الصراخ والايديولوجيات المرقّطة بالدم، وعندما احتلّتْ شاشاتها الهستيريا وطغى الغوغاء على خطابها السياسي.
هذه الـ «بيروت» التي كانت مصْنع سياساتٍ وأفكار وأحلاف وصحافة ومكائد وثقافة وعيْشٍ رغيد، كأنها اليوم تلهو بـ «زمنها البائس». أحداثها «التاريخية»، سلسلةٌ وموازنةٌ وتعييناتٌ و«سعْدناتٌ» اسمُها حياكاتٌ من حِيَلٍ لقانون انتخابٍ حبْكتُه المخفية تكبيرُ أحجامٍ وتصغيرُ أخرى، في لعبةٍ مكشوفة للإمساك بسلطةٍ ممسوكةٍ بفائضِ القوة لا بقوةِ الاقتراع، لعبةٌ استهوتْ الرقص على حافة الهاوية يوم عُلّقت الرئاسة الأولى فوق فوهةِ الفراغ لنحو 30 شهراً، والآن مع التلويح بالفراغ عبر المقايضة بين قانون انتخابٍ جديد وبين لا برلمان.
بيروت التي انتظرتْ «على أعصابها» التقرير الدوري للأمم المتحدة حول القرار 1701 والتي تضرب «الأسداس بالأخماس» في الطريق الى القمة العربية أواخر الشهر الجاري، تخشى دفْع فواتير باهظة لتَخلّيها الطوعي او بالإكراه، عن الإمرةِ في المسائل الاستراتيجية لـ «حزب الله»، وهي التي لم يعد لها مكانٌ لا في المقاعد الخلفية ولا الأمامية على الطاولة التي ترسم مصير سورية ونفوذ اللاعبين فيها، كأنها ليستْ من دول الجوار وغير معنية باستضافتها مليون ونصف مليون نازح سوري، ولا علاقة لها بمكافحة الإرهاب… الأكيد ان «حزب الله» الذي سلّم أمره لإيران، شريكة روسيا، ينوب عن بيروت، بمَن فيهم خصومه الذين تُركوا في العراء فسلّموا بأن المسائل الكبرى من اختصاص سواهم.
لم يكن عادياً أن تستمرّ بيروت في دفْن رأسها في الرمل في الوقت الذي تضجّ المنطقة بأسْرها بأحداث «خمس نجوم»… رؤساء أركان جيوش روسيا وأميركا وتركيا يلتقون في أنقرة لوضْع خريطة الطريق الى عاصمة «الخليفة البغدادي» في الرقة والتفاهم على «إشارات المرور» في البرّ والجوّ. بنيامين نتانياهو يُكثِر من الصراخ في طريقه للقاء فلاديمير بوتين ويعود بـ «صمتٍ مريب» يحتمل الخيْبة و… الخديعة. رجب طيب اردوغان يطير الى موسكو لتطبيع العلاقة مع الكرملين، وعيْنه على البيت الأبيض لحجْز مكانٍ على الطاولة وعلى الأرض. ديبلوماسيون وجنرالاتٌ أميركيون يستطلعون، وكأنهم فرقةٌ سبّاقة لاستراتيجيةِ دونالد ترامب في المنطقة.
لم تكتفِ بيروت بالانحناءةِ أمام الريح. فحين قرّرتْ إجراء «تمرينٍ كلامي»، أطلقتْ «رصاصات طائشة» من «خارج النص»: شكّكتْ بقدرة جيشها فأصابتْ الأمم المتحدة التي «تجاهد» للحفاظ على دور «اليونيفيل» في جنوب لبنان من «عصْر النفقات» والتمسك به أكثر في عصر ترامب. وبدتْ كأنها تدافع عن مستقبل بشار الأسد الذي صار أشبه بـ «شرطي سير» لتنظيم حركة الجيوش المتعددة الجنسية والميليشيات المتعددة الولاءات على أرض سورية. كما أفسدتْ العلاقة مع دول الخليج في مستهلّ «شهرِ عسلٍ» وكادتْ ان تقع في فخٍّ يريده نتانياهو الذي «يزغرد» لوصول ترامب الى البيت الأبيض.
وأغرب ما في بيروت هذه الأيام هو ان ما من شيء يجري في اللحظة التي تُقرع فيها طبول الحرب بين اسرائيل و«حزب الله»، وكأنها تمشي من دون ان تلتفتْ لا يميناً ولا يساراً، الى قدَرٍ يجعلها ساحةً لمواجهةٍ بالواسطة بين إيران والولايات المتحدة، وهي ربما لم تسمع ان «حزب الله» هدّد بتدمير مفاعل ديمونا ومنشآت الأمونيا في حيفا وان اسرائيل توعّدتْ بإعادة لبنان الى العصور الوسطى عبر تدمير بناه التحتية، بدليل ان بيروت لم تحرّك ساكناً ولم ترفع سمّاعةً ولم تطيّر برقيةً ولم يرفّ لها جفنٌ، فأغلب الظنّ ان لا حوْل لها ولا قوة، وتكتفي بعضلات «حزب الله» وترسانته في إرساء «تَوازُن رعبٍ» حتى إشعار آخر.
غير ان مقاهي بيروت وشارعها وصالوناتها بدتْ مهجوسةً بما يشاع عن حربٍ محتملة. وعندما لم يقُلْ لها مجلس الوزراء المصغَّر او المكبَّر أي شيء، لم يكن أمامها إلا انتظار برامج «التوقّعات» و«المنجّمين» على الشاشات وكذلك «نجوم» التحليلات المؤَدْلَجَة بـ «الريموت كونترول» وعلى محطاتِ تلفزةٍ صارتْ أشبه بـ «صندوق فرجة» تلهث وراء «عنترياتٍ» ترفع نسبة المشاهدة، وكأن بيروت في «سيركٍ» مجّاني يصفّق لـ «البهلوانيات» او انها على كوكب آخر، عسْكرُه مشغولٌ باحتفاليةِ الأسهم النارية لقائدهم الجديد، وديبلوماسيّته منصرفةٌ لـ «قصقصة» قوانين انتخابٍ، الواحد تلو الآخر، والمفاوضةِ في شأنها على نحوٍ يفوق أهميةً وضراوةً ما يجري في الأستانة وجنيف.
وحده «حزب الله» يأخذ الأمر على محمل الجدّ ويعمل للحرب كأنها واقعةٌ غداً… أوّل الخيْط كان «شيفرةً» مخابراتية وَصَلَتْه بحقيبةٍ ديبلوماسية عربية. أَدْرَكَ ان المواجهة المؤجَّلة تقترب، فسارع الى ما يشبه إعادة الانتشار. سحبَ مئاتٍ من رجال الوحدات الخاصة من «أرض الجهاد» في سورية ومن على جبهاتها الهادئة، وزجّ بهم في الجنوب الذي كان أدار له الظهر لمقاتلةِ عدوٍّ يتقدّم على اسرائيل. ربما قرّر نتانياهو إنهاء فترة السماح التي مكّنتْ الحزب من الانخراط في حروب سورية والعراق واليمن، بعدما رأى ان مجيء شبيهه الى البيت الأبيض فرصةٌ مؤاتية للانقضاض على إيران ومتراسها الأمامي (حزب الله) وبالنيابةِ عن الجميع.
ولأنّ الحرب «أوّلها كلام»، طغتْ قرْقعة السلاح على الجبهة المسترخية على الحدود مع اسرائيل رغم اعتقاد البعض ان ما يشاع عن حربٍ على الأبواب مجرّد «كلام بكلام»، لأن المنطقة لا تحتمل حربيْن في وقتٍ واحدٍ ضدّ إرهابيْن، سنّي (داعش والقاعدة) وشيعي (الميليشيات التابعة لإيران)، ولأنه يصعب تَوقُّع مغامرةٍ اسرائيلية بمعزل عن ضوء أخضر من ترامب الذي لم يحْسم استراتيجيته تجاه الشرق الأوسط، ولأن روسيا التي هنْدستْ قواعد اشتباكٍ بين اسرائيل و«حزب الله» في سورية غير معنيّة بما قد يجري على الجبهة اللبنانية – الاسرائيلية و… لأن كثرة الكلام عن الحرب يُبعِد شبحها.