يكثر الحديث عن الإصلاح في هذه المرحلة من تاريخ لبنان بعدما وصل الفساد إلى أرقام قياسية وحدود غير مسبوقة، ما جعل لبنان يتراجع إلى المرتبة 136 على المستوى الفساد عالمياً.
ولعل ما جرى على هامش سعي السلطة السياسية لفرض ضرائب ورسوم جديدة تحت شعار الحاجة لتمويل إقرار سلسلة الرتب والرواتب، يفرض نقاشاً عميقاً ومستفيضاً حول هذا الموضوع. ففي علم الاقتصاد لا يجوز على الإطلاق فرض ضرائب ورسوم في ظل جمود اقتصادي خانق وارتفاع معدّل البطالة وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين. كما أنه وبالمنطق العلمي البسيط لا يجوز إقرار ضرائب ورسوم عندما تكون مزاريب الهدر والفساد مفتوحة على مصراعيها، بل يجب أولاً وقبل كل شيء محاربة الفساد والحد من الهدر، وخصوصاً في موضوع سهل وبسيط يتعلق بعمليات تهرّب جمركي في المرفأ والمطار وغيرها من النقاط الحدودية باعتراف وزير المالية. وبالتالي يصبح من اللياقة بمكان أن تقدم السلطة السياسية على لجم الفلتان القائم بما يموّل سلسلة الرتب والرواتب من دون الحاجة إلى فرض ولو رسم واحد.
ولا يجوز بأي حال من الأحوال إعلان الاستسلام أمام تفشي أعلى درجات الفساد المغطى سياسياً ومذهبياً، واللجوء إلى فرض ضرائب ورسوم على المواطنين بما يجعل المواطن كبش محرقة لتمويل فساد قسم كبير من الطبقة السياسية وزبائنيتها!
حتى في الجانب القانوني والدستوري، فإن المنطق البسيط من مجلس نواب مدّد لنفسه مرتين، ولأسباب واهية، وفقد شرعيته الشعبية بحسب اعتراف غالبية مكوناته، ألا يفعل أي شيء غير إقرار قانون جديد للانتخابات، ليتولى من بعده المجلس الجديد التشريع باسم الشعب اللبناني. وعوض ذلك ها نحن نرى مجلساً ممدداً لنفسه، يحجم عن نقاش قانون جديد للانتخابات لإقراره، ويغوص في عملية فرض ضرائب ورسوم جديدة على اللبنانيين من دون حياء!
حسناً، فلنقبل للحظة بنقاش مبدأ فرض الضرائب والرسوم لتمويل سلسلة يستحقها قسم من المستفيدين منها، وبينهم العسكر والأساتذة وقسم من الموظفين الذي تحدث عن فائض بينهم بعشرات الآلاف. فلنقبل نظريا بالنقاش. هل يجوز أن يفرض الضرائب على اللبنانيين نواب يمتنعون عن إقرار قانون “من أين لك هذا؟” في مجلس باتت الأكثرية الموصوفة فيه من أصحاب الثروات الموصوفة؟!
ألا يستحق اللبنانيون بدء عهد من الشفافية عبر إقرار قانون “من أين لك هذا؟” وتطبيقه على الجميع، وفي طليعتهم الرؤساء والوزراء والنواب والقضاة والضباط والإعلاميين والموظفين وكل من يتعاطى شأناً عاماً؟
في فرنسا سألوا المرشح الرئاسي فرنسوا فيون عن بذّات رسمية وصلته كهدية بقيمة 13 ألف يورو… فماذا نسأل في لبنان عن كيفية وصول ملايين الدولارات إلى حسابات عدد كبير من النواب والوزراء؟ وكيف يمكن لأحدهم أن يوقع على فرض ضرائب ورسوم على المواطنين ويرفض أن تتم مساءلته عن مصادر الأموال التي تدخل حساباته؟ وكيف يمكن فرض ضرائب على الطبقات الفقيرة واتخاذ قرارات وسنّ تشريعات تعفي أرباب المال وحيتان الشركات من الضرائب المناسبة؟ وكيف يمكن تشريع “سرقة” الأملاك البحرية في لبنان بـ50 مليون دولار فقط؟
الأسئلة أكثر من أن تُحصى، والاعتراض الشعبي مبرّر، وعلى الجميع فصل المسار السياسي عن المسار الاقتصادي- الاجتماعي، والقبول بأن صرخات المواطنين الاحتجاجية على فرض الضرائب والرسوم محقة ولو حاول البعض توظيفها خارج سياقها. لكن الثابت والأكيد أن بوابة الإصلاح الحقيقي والوحيدة تكمن في إقرار قانون “من أين لك هذا؟” وتطبيقه بشكل حازم، علّنا نصل إلى الشفافية الحقيقية يوما ما!