Site icon IMLebanon

أرباح المصارف كالمنشار ورياض سلامة يحمّل الخزينة العامة الكلفة

 

كتب محمد زبيب في صحيفة “الأخبار”:

 «الوقاحة» لا حدود لها، ففي الوقت الذي نجحت فيه المصارف بشيطنة الضرائب لمنع إلغاء الإعفاءات الممنوحة لها، تكشّفت فصول جديدة من “الهندسة المالية” التي منح حاكم مصرف لبنان المصارف عبرها أكثر من 5.5 مليارات دولار كأرباح استثنائية فوق أرباحها السنوية المتكررة، المقدرة بنحو 2.1 مليار دولار. فقد أعلنت وزارة المال أمس أنها تلقت طلبات بقيمة 17.8 مليار دولار للاكتتاب في سندات «اليوروبوندز» بعائد 7%، وأنها قبلت 3 مليارات دولار منها، 600 مليون دولار مصدرها خارجي، فيما 2.4 مليار دولار مصدرها المصارف المحلية، حصلت عليها من مصرف لبنان!

بعيداً عن “الاحتفالية” التي ترافق إصدارات سندات الدين بالدولار “يوروبوندز”، التي تحتفي بتجديد ديون الدولة وزيادتها وزيادة حصة الدين الخارجي عبرها، والتي تصوّرها كـ”قصة نجاح” من “قصص” النموذج الاقتصادي اللبناني المرهون بالكامل للتدفقات الخارجية وربحية المصارف وكبار المودعين… بعيداً عن كل ذلك، على أهميته، حمل الإعلان الصادر عن وزارة المال، أمس، في شأن إنجاز إصدار جديد من سندات الدين بالدولار بقيمة 3 مليارات دولار، دلالات إضافية تفضح زيف الادعاءات الكثيرة، التي سيقت في معرض تبرير تحويل مصرف لبنان أكثر من 5.5 مليارات دولار من المال العام إلى أرباح المصارف وكبار المودعين، في إطار ما سمّي “الهندسة المالية”، الجارية منذ حزيران الماضي.

ماذا جاء في إعلان وزارة المال؟

بحسب بيانها، “قامت وزارة المال بإصدار سندات خزينة بالدولار، بقيمة 3 مليارات دولار (…) بهدف تمويل استحقاقات أصل الدين بالعملات الأجنبية لعام 2017”. هذا المبلغ يمثل ضعف المبلغ الذي طلبته عند فتح باب الاكتتاب قبل أسابيع قليلة، وهذا دليل على وجود “الوفرة” في عرض “الدولارات” في السوق المحلية والسعي الحثيث إلى توظيفها في أدوات الدين العام والاستفادة من الفوائد المجزية ومراكمة المزيد من الأرباح على حساب المال العام. ولكن، ليس هذا الدليل الوحيد، بل إنّ بيان وزارة المال تضمن ما هو أشد فجاجة منه، إذ “تباهى” بأنّ هذا الإصدار تميّز بـ”نسبة عالية من مشاركة المصارف والمؤسسات المالية المحلية والأجنبية، حيث بلغ حجم الطلب على الاكتتاب نحو ستة أضعاف المبلغ الذي أُصدِر، أي ما يعادل 17.8 مليار دولار، منها نحو 1.250 مليار دولار من مصارف ومؤسسات مالية أجنبية”. وأضاف البيان أنّ “نسبة المبالغ المكتتب بها من المصارف والمؤسسات المالية الأجنبية في السندات هي بحدود 20% من المبالغ التي أُصدِرَت، أي نحو 600 مليون دولار، ما يدل على استمرار الثقة والطلب الدولي على السندات اللبنانية”. وتابع: “التباهي” بالقول إنَّ “العوائد على السندات الجديدة التي تمّ إصدارها هي بمعدلات جيدة مقارنةً بمعدلات العوائد الرائجة في الأسواق الثانوية”!

يوضح بيان وزارة المال أنَّ الـ”3 مليارات دولار”، التي قبلتها من أصل الطلب البالغ 17.8 مليار دولار، توزعت على ثلاثة آجال:

– الشريحة الاولى بقيمة 1.250 مليار دولار، بعائد 6.85%، يسدد كل 6 أشهر، ويستحق الأصل في آذار 2027، أي بعد 10 سنوات.

– الشريحة الثانية بقيمة مليار دولار، بعائد 7%، يسدد كل 6 أشهر، ويستحق الأصل في آذار 2032، أي بعد 15 سنة.

الشريحة الثالثة بقيمة 750 مليون دولار، بعائد 7.25%، يسدد كل 6 أشهر، ويستحق الأصل في آذار 2037، أي بعد 20 سنة.

أي دلالات من هذه التفاصيل؟ باختصار شديد، يقول بيان وزارة المال إنَّ هناك “وفرة” في “الدولارات”، وهناك استماتة لتوظيفها، بما في ذلك الطلب الآتي من خارج لبنان، وبالتالي لا أساس لكل خطاب “التهويل” الجاري عن وجود “ضغوط نقدية” و”أزمة تمويلية” بالعملة الصعبة. هذه “الوفرة”، بحسب مصادر مطلعة، أسهمت بخفض العائد على سندات العشر سنوات (الشريحة الثانية) من 7.12% إلى 7%، نظراً إلى الطلب الكثيف عليها، إذ إنَّ هذا العائد لا يزال مغرياً جداً مقارنةً بمعدّلات الفائدة المنخفضة في الأسواق العالمية.

شكّل هذا “الضربة القاضية” لمعظم التبريرات التي أعلنها حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، في سياق دفاعه عمّا سمّاه “الهندسة المالية”، ولا سيما تهويله المتكرر بـ”شحّ السيولة بالعملات الأجنبية” واضطراره إلى تسديد كلفة باهظة من المال العام لمواجهة هذا “الشح”. ففيما تتهافت المصارف اليوم لتوظيف “دولاراتها” بعائد متوسطه 7% في سندات الدين، تعمّد سلامة، منذ حزيران الماضي، منحها عائداً سخياً جداً بلغ متوسطه 39.5%، بحجّة وجود “مخاطر” ناتجة من ضعف التدفقات النقدية بالعملة الأجنبية وصعوبة تأمين حاجات تمويل الدولة والاقتصاد بهذه العملات.

 

فقد قام مصرف لبنان، اعتباراً من حزيران الماضي، بشراء ما قيمته 21 ألف مليار ليرة من سندات الخزينة بالليرة وشهادات الإيداع بالليرة التي تحملها المصارف، وسدد للمصارف نحو 8300 مليار ليرة (5.5 مليارات دولار) أرباحاً فورية على هذه العملية. في المقابل، اشترت المصارف من مصرف لبنان سندات دين بالدولار وشهادات إيداع بالدولار بقيمة 14 مليار دولار. لم تقتصر أرباح هذه العملية على الـ5.5 مليارات دولار، فالمصارف تجني عائداً على السندات والشهادات بالدولار يتجاوز حالياً 6.5%، أي نحو 900 مليون دولار سنوياً، كذلك اضطر مصرف لبنان ووزارة المال إلى امتصاص الجزء المهم من السيولة بالليرة الإضافية (29 ألفاً و300 مليار ليرة) التي تراكمت لدى المصارف نتيجة هذه العملية، وتفيد المعلومات بأن عملية الامتصاص الجارية للسيولة بالليرة وفّرت للمصارف أرباحاً سنوية إضافية بقيمة 1400 مليار ليرة، أي إن المصارف لم تجنِ فقط 5.5 مليارات دولار من “الهندسة” في العام الماضي، بل ستجني عليها سنوياً أكثر من مليار و800 مليون دولار سنوياً حتى تاريخ استحقاقها (متوسط 12 سنة).

السؤال الذي يُطرح الآن: إذا كانت المصارف تعرض على وزارة المال 17.8 مليار دولار لتوظيفها في سندات “اليوروبوندز” بعائد 7%، فلماذا أجرى حاكم مصرف لبنان هندسته المالية ومنح المصارف عائداً يلامس 40%؟

لا تنتهي القصّة هنا! إذ إنَّ التتمة تحمل دلالات “فضائحية” أكثر مما ورد.

جزء مهم من “الدولارات” التي عرضتها المصارف لتوظيفها في الإصدار الأخير مصدرها مصرف لبنان نفسه، فقد عمد رياض سلامة، مرّة جديدة، إلى استكمال هندسته، ولكن بالعكس، إذ حسم للمصارف شهادات إيداع بالدولارات، التي سبق أن وظّفت “دولاراتها” فيها عبر “الهندسة المالية”، بما يوازي اكتتاباتها في إصدار وزارة المال! ماذا يعني ذلك؟ بتبسيط شديد، فبعد أن جنت المصارف عائداً بمتوسط يلامس 40% على “الدولارات” نفسها، أعادها سلامة إليها لتوظيفها مجدداً بسندات الدين الحكومية بالدولار، أي إنه نقل جزءاً من عبء خدمة “الدولارات” من ميزانية مصرف لبنان إلى الموازنة العامّة! طبعاً، ما انفك سلامة يردد أنه لم يحمّل كلفة “الهندسة المالية” إلى أحد، فالنقد لديه يولّد النقد من لا شيء. ما جرى في الإصدار الأخير (وما سبقه بالتأكيد) يجسد الدليل على أنَّ النقد يولّد النقد من خلال نهب مقدرات المجتمع وثروته.

بحسب مصادر مصرفية، جاء إصدار وزارة المال متأخراً لمدة أسبوع عن موعد استحقاق جزء من الدين. أما أسباب التأخير، فكانت متصلة بهذه الآلية تحديداً، أي استبدال جزء من محفظة شهادات الإيداع الصادرة عن مصرف لبنان، التي ارتفعت قيمتها بعد “الهندسة المالية” إلى 24 مليار دولار، وتخفيف “حمولتها الزائدة” التي تضعف ميزانيته، وإعادة تحميلها للخزينة العامة، التي ستظهر عجزاً إضافياً وديناً أكبر.

في الحصيلة، زادت المصارف أرباحها، وخفّف مصرف لبنان حمولته قليلاً، ولم يخرج من عنده أي دولار، بل بالعكس ستزيد موجوداته 600 مليون دولار المكتتب بها من الخارج. في حين أنَّ دافعي الضرائب سيتحملون المزيد من الأكلاف نتيجة كل ذلك.

 

أرباح المصارف أكبر من رواتب 430 ألف موظف

 

يقول الوزير السابق شربل نحاس، إنَّ أرباح المصارف الصافية لعام 2016 توازي 14.3% من الناتج المحلي الإجمالي المقدر بنحو 54.54 مليار دولار، وهي أعلى بنسبة 30% من كتلة الرواتب والأجور المصرّح عنها للضمان الاجتماعي والبالغة 6 مليارات دولار سنوياً، علماً بأنَّ هذه الكتلة تعود إلى نحو 430 ألف أجير في لبنان. فضيحة بهذا الحجم هي محاولة للتغطية على حجم ومستوى «الغرف» من المال العام.

ووفق تحليل الأرقام التي أعلنتها جمعية المصارف، فإن أرباح المصارف الناتجة من «الهندسة المالية» بلغت 5.693 مليارات دولار، إذ أعلنت الجمعية في بيان لها أنَّ الضريبة (15%) التي ستسددها المصارف على هذه الأرباح تبلغ 1291 مليار ليرة، أو ما يعادل 856 مليون دولار، وقالت إنَّ الأرباح السنوية المتكررة بلغت 2.156 مليار دولار (أعلنت الجمعية أنَّ الضريبة التي ستسددها المصارف على أرباحها السنوية غير أرباح الهندسة الاستثنائية تبلغ 485 مليار ليرة أو ما يعادل 321 مليون دولار)، أي أنَّ مجمل الأرباح المحققة في 2016 للمصارف بلغت 7.849 مليارات دولار.