كتبت ليا القزي في صحيفة “الأخبار”:
فيما تخوض الدولة السورية، منذ سبع سنوات، حرباً تتداخل فيها العوامل المحلية والإقليمية والدولية، وتُشارك فيها “كتائب (حزب) البعث”، تنشغل قيادات الحزب في لبنان في حربها الخاصة: من يبسط سيطرته على القيادة القطرية. والنتيجة، ثلاث قيادات لحزب واحد.
القصة تعود إلى عام 2015، تاريخ “إقالة” النائب السابق فايز شكر من منصبه كأمين قطري لحزب البعث، وتعيين معين غازي بديلاً له. القرار صدر عن لجنة مؤلفة من الأمين العام المساعد في سوريا عبد الله الأحمر، والأمين القطري المساعد هلال هلال، والسفير السوري لدى لبنان علي عبد الكريم علي. وهي اللجنة المُكلفة متابعة الشأن الحزبي داخل “القُطر” اللبناني. لم يمتثل شكر للقرار، “رافضاً تسليم مبنى الحزب في رأس النبع”، وفق مصدر في “البعث”. بعد قرابة ثلاثة أشهر، “انشقّ” عن قيادة شكر 5 أعضاء من أصل 7، مقدمين أنفسهم كحالة “حيادية” عن قيادتي غازي وشكر، تابعة للشام، يرأسها محمد المحمدية. بين ثلاث قيادات، توزع البعثيون. ومن حينه، تنتصر الحالات التمردية على محاولات ترميم الوضع الداخلي. فيبدو حزب ميشال عفلق، ماضياً نحو الذكرى السبعين لتأسيسه (7 نيسان 1947)، مُشتتاً. عاث أعضاء جهازه الحزبي خراباً بـ”الأمانة”، مستفيدين من انشغال القيادة السورية بحربها. ينطبق عليهم المثل الشعبي: “الناس بالناس… والقطة بالنفاس”.
مع وجود ثلاث قيادات بعثية، لقي السفير السوري علي عبد الكريم علي أنّ الفرصة مواتية له للتدخل. وتوصل إلى “تسوية مع شكر عنوانها استرداد المبنى منه، والاتفاق على قيادة جديدة”. المؤتمر الذي نُظم في مركز رأس النبع في 3 حزيران الماضي، “غاب عنه قانصوه لشعوره بأنه أُقصي عن التسوية، ووجود رغبة لدى السفير السوري في تبني نبيل قانصوه (ابن شقيق عاصم)، فاتفق مع غازي على تنظيم مؤتمر ثانٍ في الموعد نفسه”. إلا أنّ خلافاً وقع بين قانصو وغازي “على توزيع المراكز القيادية”.
المفاجأة التي “فجّرها شكر بوجه عبد الكريم علي، هي أنه لم ينجح سوى 4 أعضاء محسوبين على السفير من أصل 13”. وعيّن هؤلاء الأعضاء سهيل القصار أميناً قطرياً. الغاية التوحيدية من المؤتمر فشلت، وانقسم البعثيون من جديد بين قيادتين: القصار (برعاية السفارة السورية وتتسلّح بتسجيل المؤتمر لدى وزارة الداخلية، وبالتالي بأنها تُمثل الشرعية والقرار السوري)، وقانصوه الذي يُصر على أنه لا وجود لشرعية في “البعث” بعيداً عنه وبأنه يتلقى توجيهاته مباشرةً من الرئيس بشار الأسد. ويقول لـ”الأخبار” إنّ من غير المفروض أن يتدخل عبد الكريم علي في الشؤون الحزبية “وهو غير حزبي لأنه بعد انتقاله إلى لبنان لم يُرسل وثيقة انتقاله إليّ. هدف السفير تدمير الحزب”. ويوافق شكر بأنّ السفير يريد تأسيس ما يُسمّى “حزب السفارة”.
لم يكد البعثيون يلتقطون أنفاسهم، حتى عاجلهم بروز قيادة ثالثة. يقول مصدر بعثي إنّ “السفير نجح في التأثير برأي معظم أعضاء قيادة القصار، وتوجهوا إلى مكتب الرفيق هلال هلال في دمشق لتعيين قيادة جديدة برئاسة نعمان شلق، على أن يكون نبيل قانصوه أميناً قطرياً مساعداً”. أما “أبو جاسم” (النائب عاصم قانصوه)، فيؤكد أنّ ابن شقيقه “فاقد لعضويته منذ ما يُقارب 25 سنة. آخر مرة كان في شعبة بعلبك”.
بعد العودة من الشام، زعم القصار أنه أُجبر تحت تهديد السلاح على تقديم استقالته، فـ”انشق” هو وعلي المقداد ومحمد تامر، منضمين إلى قيادة قانصوه. ولكن بالنسبة إلى نبيل قانصوه الأمر بسيط. يقول لـ”الأخبار” إنه “بعد شهرين من ممارسة عملنا، قررنا إعادة توزيع المكاتب (المناصب)”.
في الشكل، تبدو رعاية هلال لقيادة شلق، إقراراً بأنها هي السلطة الشرعية. لم يُقنع هذا الأمر قيادات الحزب في لبنان، فبقيت القيادة من دون مركز حزبي. ليل 11 ــ 12 آذار الماضي، اقتحمت قيادة شلق، “تحديداً عمار أحمد ونبيل قانصوه”، مبنى رأس النبع، بحسب المصدر. من جهته، يصف نبيل قانصوه ما حصل بـ”دخول المبنى، حيث لم يكن هناك مقاومة من الطرف الآخر. نفذنا القرار كقيادة قطرية لبنانية من دون اعتراض سوري”.
في كانون الثاني الماضي، صودف وجود عاصم قانصوه في مكتب رئيس مكتب الأمن القومي علي مملوك، لدى تلقي الأخير اتصالاً هاتفياً من الأسد. ولمّا علم قانصوه أنّ الرئيس على الخط، طلب التكلم معه. وبحسب الرواية التي سردها لـ”الأخبار” أكثر من مصدر ينتمي كل منهم إلى معسكري بعثي مختلف، قال الأسد لقانصوه: “أنت كبير الحزب ويجب أن تجمع لا أن تُفرّق. تواصَل مع هلال”. اشتكى قانصوه أنّ هلال لا يردّ على اتصالاته، فقال الأسد: “بلى سيردّ”. لا ينفي عاصم قانصوه هذه الرواية، بل يفخر بها لاعتباره أنها “تكليف من الرئيس بعقد مؤتمر لجمع الكلّ”. في المقابل، يبدو نبيل قانصوه واثقاً وهو يقول إنّه في احتفال تأسيس الحزب في ٧ نيسان، “في مركز الحزب وبحضور السفير سيكون هناك إعلان لجواب على الرسالة التي يقول أبو جاسم إنه تلقاها من الرئيس”. فبالنسبة إلى هذا الفريق، كلام الأسد لعاصم قانصوه (يقيم احتفالاً في ذكرى الحزب في 9 نيسان) لم يكن تكليفاً للقيام بمبادرة، بل على العكس.
وفي هذا الإطار، يُنقل عن هلال أنّ “شكر وعاصم قانصوه ممنوعان من دخول سوريا. وصدر قرار باسترداد المركز والسيارات من أعضاء القيادة القومية في الشام”. الرجلان ينفيان ذلك، ويزيد “أبو جاسم” بأنه هو الذي عرض ردّ الأملاك “فأكلناها بهدلة وأبقيَت معنا”.
بناءً على “التكليف”، دعا عاصم قانصوه إلى مؤتمر في 5 نيسان لانتخاب قيادة جديدة. “هو ممثل الشرعية، بعد أن انتهت ولاية المؤتمر الاستثنائي المحددة بـ 8 أشهر”، يقول شكر. أعضاء من قيادة شلق يتهمون شكر بأنه لُبّ المشكلة ومُحرّض النائب قانصوه. تعلو قهقهة شكر وهو يجيب: “أبو جاسم عمره ستون سنة في الحزب، أنا أحرّضه؟ أنا لا أتدخل بالشأن الحزبي منذ شهر حزيران الماضي”. وبالنسبة إلى عاصم قانصوه، “فايز دعم قرار الأسد، فأنا لست طرفاً بل مُكلّفاً”.
تُجمع الأطراف التي تواصلت معها “الأخبار”، باستثناء نبيل قانصوه، أنّ ما يحصل داخل “البعث” يعود إلى دور السفير، والتحضير للانتخابات النيابية. في المقابل، يرفض السفير علي عبد الكريم علي التعليق على أزمة الحزب في لبنان، فيما يُنقَل عنه قوله إن الشرعية هي عند شلق ونبيل قانصوه.
لماذا لا تتدخل القيادة السورية لتحسم الوضع؟ “مش فاضي بشار الأسد يتدخّل كلّ ما اختلفنا نحنا هون”، يقول أبو جاسم. أما نبيل قانصوه، فيرى أنّ “القيادة تحاول تقريب وجهات النظر”. حتى الآن، لا يبدو أنّ الأمور تتجه إلى الحل. حاول محمد المحمدية طرح مبادرة إلى هلال، “ولكنّ الأخير رفض الاستماع إليها”. في المقابل، يحاول البعض من الذين لا ينتمون إلى أي من المحاور تنظيم اجتماع لقيادات الفروع مع هلال “ليسمي الأخير القيادة الجديدة، على اعتبار أنّ هذا قرار سوريا. ومن لا يلتزم يغادر الحزب”. يُعبّر مصدر بعثي عن الأمور بطريقة أخرى: “لو كان في لبنان عنصر مخابرات سوري واحد، لما تجرأ أحد على هذه التصرفات”.