IMLebanon

سمير فرنجية… الرجل الذي لا يحتاج إلى لقب

 

كتبت هيام القصيفي في “الأخبار”:

سيُكتَب الكثير عن سمير فرنجية، السياسي والمناضل و”البيك الأحمر”، وعن تاريخ ولادته ونشأته وعمله وكلماته واللقاءات التي أنشأها وشارك فيها.

وسيُكتَب عن هذا الغياب في أسبوع الآلام، وهو الذي خبر عذاب المرض، لكن بكبر وبرأس مرفوع وكرامة لم تقلل منها أيام الوهن، كما كان يردد فارس سعيد، الذي فقد رفيقه الدائم، كما تفقده زوجته آن وعائلته الصغيرة، وأصدقاؤه والحلقة المقربة منه والأبعد.

لكن غياب سمير فرنجية الإنسان، قبل السياسي ومعه وبعده، يبقى العلامة الفارقة في زمن نفتقد فيه هذا النموذج الراقي لدى كثر من أفراد الطبقة السياسية.

حالة كاملة اسمها سمير فرنجية غابت عنا أمس. حالة دائمة وحاضرة في كل اللقاءات التي شهدنا عليها منذ التسعينيات في تاريخنا الحديث، كما شهدتها شخصيات سياسية عدة منذ أن بدأ الشاب سمير حميد فرنجية يمارس السياسة بهوس وشغف. حالة كاملة صافية، تعبّر عن زمن يتزاوج فيه لبنان الجميل والسلم والحرب، ويتلاقى فيه الآتون من كل المناطق التي يحفظها فرنجية عن ظهر قلب ويعرف أبناءها وزعماءها، فلا تغيب عنه منطقة لبنانية، وهو الخارج من قوقعة دخل إليها كثيرون. ابن زغرتا المدينة والقضاء وطرابلس والشمال ولبنان كله الذي يعرفه جيداً. زغرتاوي أصيل، ارستقراطي بالمعنى الجميل والأنيق، يعود إلى زغرتاويته عند كل مفصل ومحكّ أساسي، فنصبح كلنا خارج هذه العصبية حين يلتقي وأصدقاءه الزغرتاويين والشماليين. ولطالما روى عن هذه العصبية بنكتة لبقة حين كان يتحدث عن محطات ونقاشات طبعت قرنة شهوان.

حالة سمير فرنجية الخاصة لا يمكن أن تُفصَل السياسة فيها عن الرجل المثقف، صاحب النكتة، التقليدي وابن البيت السياسي، والغارق حتى العظم في الكتب والقراءة والصحف والمتابعة اليومية، فلا تفوته شاردة أو واردة إلا يعلم بها، ويلفت إليها نظر من لا يتابع ولا يقرأ، وهم أصبحوا كثراً.

أهمية سمير فرنجية أنه يعرف تاريخ لبنان جيداً، ويعرف حاضره، وشخصياته وصحافييه ومثقفيه وفنانيه وطبقاته الاجتماعية والسياسية. لا يفوته حدث محلي أو خارجي، ولا ينسى أن يعيد استذكار حدث أو نقاش ما، ممّا قبل الحرب وفي خلالها، وهي التي كان شاهداً حقيقياً على محطات أساسية فيها، وجعلته على صداقة وطيدة مع كثيرين من قادتها.

ليس تنوع سمير فرنجية وغناه الثقافي فقط هو الذي جذب إليه مجموعة من السياسيين والأصدقاء والصحافيين، ممن يفتقدون هذه الحلقات المشوّقة، والذين كانوا يدخلون مكتبه أو منزله من مار الياس إلى طلعة جنبلاط، أو في مقر الأمانة العامة أو على طاولة مقهى أو مطعم، وفي صبحيات لا تنتهي، مجبولة بالنقاشات وبالحوارات وباستعادة تواريخ وحوادث كان مشاركاً في صناعتها.

هناك سر ما في هذا الشاب الذي لا يملّ ولا يتعب، ولو كان عمره سبعين عاماً، كان يعيد الجميع إلى النقاش والحوار والمتعة في استحضار الماضي، وهو لا تفارقه سيجارته قبل أن يمتنع عنها ويعود إليها ويقاطعها مجدداً، تحت ضغط المقربين منه، قبل أن يخطفها من أحد زواره. ضحكته الطريفة وسخريته اللاذعة وعصبيته الحادة، جعلته يجمع مختلف شرائح السياسيين والصحافيين والأصدقاء، يروي لهم الكثير مما خبر وعاش وعرف، ويحلل معهم معطيات عن الحاضر واستشراف المستقبل، ولا يرفض فكرة لقاء أو اجتماع إن كان يرى فيه منحىً إيجابياً.

حتى الحرب اللبنانية وزمن اللقاءات الحوارية، والحركة الوطنية وأسرارها، والاجتماعات الأمنية، كانت لفرنجية عليها روايات العارف الواثق مما يخبره عنها، بأسرار وتفاصيل لا يعرف عمقها إلا هو. وجه سمير فرنجية ما قبل 1990 هو نفسه في الطائف وما بعده، وصولاً إلى عام 2000 وإلى قرنة شهوان و14 شباط 2005 وما بعدها. لكن علاقاته تبدلت وتوسعت، واغتنت وأغنت. كانت صور “ثورة الاستقلال” برموز الحركة الوطنية مدعاة تندر دائم، لكن فرنجية ظلم حقا حين اختصر البعض مسيرته بـ”ثورة الأرز”، وهو الذي كان، قبلها وبعدها، محافظاً على هذا الصفاء والدهاء السياسي، الذي جعل الخصام معه حاداً وشرساً، وكذلك متعة المصالحة معه، وجعلته إما مكروهاً من فريق سياسي وإما محبوباً حتى الرمق الأخير. وظلم أيضاً من مقربين ومن حلفاء، وظلم سياسياً وانتخابياً، لكن اسمه بقي سمير فرنجية، لا يحتاج إلى صفة تعرّف عنه.

كانت الجلسات معه لافتة بغناها في محطات كثيرة، من المؤتمر الدائم للحوار، إلى زيارة البابا يوحنا بولس الثاني، إلى السينودوس من أجل لبنان، إلى العلاقة مع البطريرك مارنصر الله بطرس صفير والمطران يوسف بشارة ولقاء قرنة شهوان، وصولاً إلى محطات 14 شباط ولقاءاته وما بعدها من إحباطات ونجاحات وعثرات، وسيدة الجبل والحوارات المفتوحة. كان ماهراً في رواية ما يجب الإفصاح عنه، من دون أن يكشف أسرار من انشقوا ومن خانوا ومن شهدوا زوراً.

قد تكون مرحلة قرنة شهوان وعلاقته مع بكركي هي التي أعطت “بُعداً مسيحياً” في نظر البعض لمن كان يلقب باليساري العتيق. لكن فرنجية لعب دوراً في صياغة موقف مسيحي من ضمن إطار لبناني صافٍ، وتحدث عن دور عربي للمسيحيين وللبنان، من دون أن يقطع الفرنكوفوني هذه الصلة بفرنسا وبالغرب، وهو الذي كان من عرابي الطائف وكاتبي عباراته، وكذلك السينودوس من أجل لبنان والمجمع الماروني.

لم يفوت فرنجية مناسبة إلا وعمل فيها لفكرة ودور ورؤية. لم يسأم من المحاولات ولا من المؤتمرات ولا من الكتابة في أوراق ومقالات وخطب، ولا في إعداد مشاريع تصلح للبنان وطناً حقيقياً، يراه من منظار آخر، مدافعاً عن الطائف، خصماً شرساً لمن كان ضده، لكنه كان خصماً شريفاً لأنه لم يكن يحكي لغتين. خاصمه كثر وصادقه كثر، وعرف محطات صعود أسهمه وانخفاضها، لكنه بقي نبيلاً في تصرفه، في مشيته الهادئة وعصبيته وضحكته وخصومته ومواقفه الحادة والعنيدة، وإنسانيته التي لا تنضب. فظل اسمه مرتبطاً بكل جلسة نقاش أو حوار حتى ولو لم يكن حاضراً.

غياب سمير فرنجية عن المسرح السياسي يوم صعد إليه من لا يعرف تاريخ لبنان ولا يقرأ في كتب التاريخ والجغرافيا والسياسة المحلية والدولية، وغيابه في زمن انحدار المستوى الثقافي والسياسي، غياب مزدوج للإنسان والسياسي بمعناه الحقيقي. بالأمس غاب ذلك النبيل، ليعود إلى زغرتا، مغادراً بيروت التي أحبها ولم يتركها في الحرب وفي السلم.