كتب د. خطار أبودياب في صحيفة “العرب” اللندنية:
يبدو للوهلة الأولى أن الرتابة لا تسود داخل بيت الحكم الإيراني حيث تدور انتخابات رئاسية كل أربع سنوات منذ 1980، بالرغم من تمركز صنع القرار وإدارته بيد المرشد الأعلى علي خامنئي. لكن هذا الاستحقاق يشكل مؤشرا على مسار السلطات وتوجهات طهران الداخلية والخارجية، وما التخبط الحالي قبل إقرار لائحة المرشحين النهائية ما بين “تحدي” محمود أحمدي نجاد، و“إنزال” إبراهيم رئيسي، و“استمرارية” حسن روحاني، إلا الدليل الإضافي على اهتزاز في القدرة على التحكم بالمشهد الداخلي، وعلى التلويح بالحيرة بين استمرار الانفتاح عبر حجة الإسلام حسن روحاني أو المجيء بمرشح الحرس الثوري حجة الإسلام إبراهيم رئيسي.
وكما في كل مرة ينهمك الممسكون بالقرار بتركيب هندسة انتخابية لترتيب النتيجة الملائمة، لكن تكرار انتفاضة 2009 يبقى الهاجس، ولذلك بدأ العد العكسي بالنسبة لسراي الحكم ويمكن للأمور أن تخرج عن السيطرة، إذ تبقى حظوظ حسن روحاني وإبراهيم رئيسي متعادلة في هذه اللحظة وسط المناورات الدائرة والانقسامات الفعلية داخل الطبقة السياسية. ينطوي نجاح روحاني الوجه المقبول من العالم على صعود يؤهله للعب دور مستقبلي في اختيار خليفة المرشد (بعد غياب عراب القرار من وراء الكواليس هاشمي رفسنجاني). أما وصول رئيسي، الذي يتم التحضير لتدريجه إلى مرتبة آية الله ليصبح أولى آيات الله في منصب رئاسة الجمهورية، فقد يؤشر على مرحلة انغلاق جديدة من الصعب تبريرها أمام الرأي العام والخارج.
من أجل الإحاطة بالخلفية التاريخية والقانونية، توصل مونتسكيو، مؤلف “روح الشرائع” و“الرسائل الفارسية”، إلى الاستنتاج بأن الدين في “بلاد فارس” مثل تحديا لإرادة الأمير أي السلطان. لكن منذ الثورة الإيرانية في القرن الماضي تغير الأمر بشكل جذري، إذ أن البعد الديني في التعبئة ضد المظلومية والذي كان أبرز محركات إسقاط الشاه، جرى ببساطة احتواؤه تحت غطاء “نظرية ولي الفقيه”، حيث تجتمع السلطة السياسية والدينية والعسكرية والقضائية بشخص المرشد الأعلى.
من هنا فإن تجربة ما يسمى “الديمقراطية الإسلامية” وفق النمط الإيراني، لا تعدو كونها تنظيما داخليا له طابع تشاوري يسهم في تقنين الصراعات وخلق انطباع بوجود أجنحة فيما تبقى الصلاحيات بيد المرشد. وهكذا لم يتمكن الإصلاحي المنفتح محمد خاتمي من إحداث اختراق طيلة ولايتيه الرئاسيتين (1997 – 2005)، وسرعان ما تم قمع “الحركة الخضراء” عام 2009 إثر الانتخابات الرئاسية، وحينها لم يلتفت الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المعارضة الإيرانية وكان همه البدء بما سماه “الانخراط” مع إيران أي الحوار معها حول الملف النووي والتطبيع في آن معا. وهذا العامل الخارجي (التفاوض حول الملف النووي والتطبيع مع واشنطن من خلال قناة سلطنة عمان) كان له الأثر الكبير في حسم الرئاسة في العام 2013 لصالح “المعتدل” حسن روحاني والموثوق جدا بصفته الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي لمدة 16 عاما، وذلك على حساب الجنرال السابق في الحرس الثوري وعمدة طهران محمد قاليباف.
يأتي الاستحقاق الرئاسي الإيراني في الشهر القادم، في ظروف صعبة ودقيقة. بدل الحصاد الإيجابي بعد التوقيع على الاتفاق النووي في 15 تموز 2015، تم تغليف التراجع الاستراتيجي، ولو المؤقت، عن البرنامج النووي العسكري بالمزيد من التمدد الإقليمي وخاصة على الساحة السورية بالتعاون مع روسيا، مما أخذ ينعكس على التطبيع مع واشنطن. وتفاقم الأمر مع وصول إدارة دونالد ترامب التي أدرجت احتواء إيران في أولويات سياستها الخارجية، وبدأت بممارسة ذلك عمليا من مياه الخليج إلى البحرين والعراق وسوريا ولبنان.
بالإضافة إلى تداعيات البعد الخارجي ولحظة ترامب هناك بعد داخلي استجد عشية الاستحقاق، ويتمثل بوفاة الرئيس الإيراني السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني الذي كان الدعامة التاريخية للجمهورية الإسلامية وناظم اللعبة السياسية. ومما لا شك فيه أن الفراغ الذي خلفه رفسنجاني من الصعب تعويضه وهذا ما تتم ملاحظته من خلال تجاذبات سيصعب توجيهها لخدمة المصلحة العليا للمنظومة السياسية وربما للبلاد أحيانا.
خلال الأيام الثلاثة الأولى لتسجيل أسماء مرشحي الانتخابات الرئاسية (11 – 16 نيسان) تقدم حوالي 600 مرشح. لكن مصفاة مجلس صيانة الدستور ستتكفل من خلال تقدير الأهلية للمرشحين باختيار اللائحة النهائية في 27 أبريل. وقد فاجأ الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد بتقديم ترشحه إلى الانتخابات المقررة في 19 مايو المقبل، في خطوة اعتبرها البعض “تحديا صارخا” لمرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي، وسابقة منذ قيام الثورة لأن “الشعبوي” لم يستمع إلى نصيحة المرشد بالابتعاد مما استدعى شن حملة عليه بالتسبب في الفتنة حتى من قبل بعض مقربيه السابقين. ولذا يرجح حسب أكثر من مصدر أن يرفض مجلس صيانة الدستور ترشيح أحمدي نجاد ومدير مكتبه حميد بقائي، وأن تنحصر المنافسة أو المفاضلة بين حسن روحاني وإبراهيم رئيسي.
حتى هذه اللحظة، تدل المؤشرات على ترجيح حظوظ رئيسي كمرشح مفضل ومطروح من قبل صانع القرار (المرشد الأعلى والمرجعيات والحرس والسوق)، لكن عدم ضمان مرور رئيسي منذ الجولة الأولى واحتمالات العودة إلى سيناريو انتفاضة 2009 في حال الوصول إلى الجولة الثانية، يمكن أن يدفعا بالمرشد الأعلى إلى التسليم بنجاح روحاني منذ الجولة الأولى، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على الموقع الشخصي للمرشد ومستقبل منظومة “ولاية الفقيه”.
ترجيح نجاح حسن روحاني يعود حسب دوائر دبلوماسية غربية مقربة من طهران إلى أن “طريقة عمله أرضت المرشد تماما حيث خفض العداء الغربي تجاه إيران من خلال الاتفاق النووي وأمعن في قمع المعارضة الداخلية عن طريق الإعدامات وقوى النفوذ الإيراني في المنطقة من خلال عدم معارضته مشاريع الحرس الثوري وفيلق القدس”. هذا من جهة، ومن ناحية أخرى فإن الشارع الإيراني لا يزال يتخوف من الأصوليين في تحديد الحريات الاجتماعية وعودة العداء مع الغرب التي خلفت حصارا اقتصاديا شاملا. ثم إن محاولة أحمدي نجاد العودة مرة أخرى تعزز فرص روحاني.
لكن أولوية هذا الاحتمال لا تعني بأن اللعبة ستغلق في الأسابيع القادمة لأن احتمال فتح ملف خلافة خامنئي يمكن أن يدفع الأصوليين إلى عمل كل شيء ضد روحاني لأن حجتهم تتمثل في الخشية من ترسيخ نفوذه، ولأن الرئيس الحالي كان مفيدا في حقبة أوباما وأنه فقد ميزته بعد التغيير في واشنطن. إنها الحيرة الاستراتيجية في بيت الحكم الإيراني وسط متغيرات متسارعة في محيط جيوسياسي قلق وملتهب.