كتب نزار عبدالقادر في صحيفة “الحياة”:
ذهب العديد من الكتّاب والمحللين ولعقود خلت إلى توصيف النظام السياسي اللبناني بأنّه يقوم على الطائفية، واعتبارها السبب الأساسي لاندلاع الحروب المدمّرة، والتدخل الأجنبي وحال التأزم وعدم الاستقرار. ويرى هؤلاء أن المكونات للطائفية اللبنانيّة من مسيحيين ومسلمين ودروز وغيرهم عالقة في حال من الصراع والتنافس الدائم وذلك انطلاقاً من إرث متجدد حول هوياتها الدينية المتعارضة.
ظهر هذا الإرث على أهميته منذ الأيام الأولى للإستقلال عام 1943 وذلك من خلال اعتماد الميثاق الوطني الذي كرّس مبدأ تقاسم السلطة، ونظمها وفق الخطوط الطائفية والمذهبية. في الواقع لا يمكن أحداً أن ينكر أن التنافس والصراع على السلطة بين الطوائف جزء لا يتجزأ من التاريخ السياسي للبنان منذ ما يزيد على 300 سنة. ولا بدّ هنا من الإعتراف بأن الأسباب الكامنة وراء الحربين الداخليتين اللتين شهدهما لبنان عامي 1958 و1975 والتي امتدت ثانيتهما إلى عام 1989 كانت طائفية، وتتعلق بالخلافات التي استجدت حول تقاسم السلطة بين المسيحيين والمسلمين، اذ شعر المسلمون مع تزايد أعدادهم، ومع تطورهم الثقافي والاجتماعي، والذي أهّلهم لمنافسة المسيحيين في جميع الحقول، بأنهم لا ينالون نصيبهم العادل من تقاسم السلطة والوظائف وفق ما نصّ عليه دستور 1926، ووفق الميثاق الوطني لجهة تقسيم النواب 54 مسيحياً في مقابل 45 مسلماً، بالإضافة إلى الخلل الحاصل في السلطة التنفيذية، وتوزيع الوظائف المهمة والرئيسية في الدولة.
لم يكن من الممكن إنهاء الحرب الأهلية الأخيرة إلا من خلال تصحيح الاختلال السياسي والاجتماعي القائم، وبالتالي اعتماد عقد سياسي واجتماعي جديد بين اللبنانيين، يأخذ في الاعتبار التعددية الطائفية وحقوق الطوائف. وهذا ما استدعى عقد مؤتمر الطائف عام 1989 برعاية سعودية وبدعم عربي ودولي.
جاء اتفاق الطائف ليكرّس نظام التعددية الطائفية، وذلك من خلال توزيع الرئاسات بين الطوائف الأساسية (رئيس الجمهورية ماروني، ورئيس مجلس النواب شيعي ورئيس مجلس الوزراء سني)، وأن تكون بقية الوظائف الرسمية مناصفة بين المسيحيين والمسلمين بما فيه النواب المنتخبون على أساس طائفي، مع مراعاة الحصص بين مختلف المذاهب مسيحياً وإسلامياً. ونصّ الاتفاق الذي تحوّل مواد دستورية على أن هذه الصيغة موقتة، وعلى أنّه لا بدّ من مرحلة لاحقة من خلال تشكيل لجنة خاصة لإلغاء الطائفية السياسية، واعتماد نظام علماني، يتساوى فيه المواطنون تجاه القانون، وتكون الضمانة للطوائف من خلال إنشاء مجلس شيوخ تتمثل فيه، ويبت في القضايا الرئيسية والمهمة، وذلك حفظاً للحقوق وصون الدولة وحمايتها من غلبة أكثرية طائفية معينة على مقدراتها بما يهدّد كينونة هذه الدولة والاستقرار العام.
في الواقع، ومنذ الاستقلال عام 1943، تميّز النظام بوجود أقنية للحوار الدائم بين مكوناته الطائفية والسياسية من أجل التوصل إلى حلول توافقية لمختلف المشكلات والأزمات، ومن أجل الحفاظ على التوازنات الاجتماعية وحفظ الاستقرار العام. من هنا فإن النظر إلى النظام اللبناني من نافذة أنه نظام طائفي قائم على التنافسية الحادة بين الطوائف يشكل مقاربة خاطئة لا تساعد على فهم وإدراك التفاعل السياسي الحقيقي القائم بين مختلف الطوائف والمكونات اللبنانية. لا يمكن هذه النظرة من الزاوية الطائفية الصرفة، إدراك الطريقة التي تمكّن من خلالها لبنان من تجنب السقوط في حرب أهلية جديدة، بعد سيطرة «حزب الله» على بيروت في أيار (مايو) عام 2008، وما تبع ذلك من مساع أدّت الى انعقاد مؤتمر الدوحة، والتوافق على مخارج أدّت إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية وإلى إجراء انتخابات برلمانية، وتشكيل حكومة. وتكرّرت هذه التجربة الحوارية من أجل رأب الصدع السياسي الكبير الذي تسبب به الاختلاف الكبير حول الأزمة السورية، وتدخل «حزب الله» فيها. تجد الطوائف اللبنانية والقوى السياسية المتفرعة منها غالباً مخارج لمختلف الأزمات من خلال الحوار والتواصل المبني على إدراك الجميع أهمية احترام المبدأ الذي اعتمد بعد ثورة 1958 والقائل «لا غالب ولا مغلوب»، والذي كرّسه التقاء الزعامات المسيحية والإسلامية إنطلاقاً من قناعة مشتركة بأنه لا بديل للعيش المشترك. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى القوة والمناعة التي تعطيها للنظام السياسي الطائفي التحالفات السياسية والانتخابية العابرة للطوائف والمذاهب، والتي تسمح بجمع قيادات من المسلمين والمسيحيين بمختلف مذاهبهم ضمن تحالفات سياسية، وذلك بهدف الحفاظ على مكاسب ومواقع هذه القيادات في النظام السياسي ومواقع الحكم.
لكن يبدو أن هذه التحالفات العابرة لخطوط الطائفية باتت مهدّدة الآن من خلال نشوء تيارات علمانية وشبابية أثبتت أنها قادرة على رفع التحدي للمطالبة بعملية إصلاحية من أجل إلغاء الطائفية السياسية، وظهرت هذه الحركة بوضوح في الانتخابات البلدية الأخيرة ضمن ما عرف بتيار «بيروت مدينتي».
أعطى ظهور «بيروت مدينتي» الذي تكوّن من عدد من المجموعات الشبابية الناشطة سياسياً بالإضافة إلى العمال والمثقفين الأمل في حصول تغيير في الحال السياسية الراهنة سواء باتجاه محاربة الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة أم باتجاه إلغاء الطائفية السياسية. وكانت النتائج الانتخابية لبلدية طرابلس (العاصمة الثانية) أثبتت وجود تيار قوي من هذا النوع نجح هذا التيار في كسر التقليد السياسي القائم في المدينة منذ الاستقلال.
أعطت الانتخابات البلدية عام 2016 مؤشراً قوياً إلى وجود تيار شعبي وشبابي معارض لسياسة الصفقات السياسية الجارية عبر الخطوط الطائفية، وأظهرت هذه الحركات الناشطة أن لديها القرار بمتابعة الضغط على النخب السياسية من أجل تغيير «الستاتيكو» السياسي القائم على التمثيل الطائفي والذي يتسبب في شلّ مؤسسات وآليات القرار في الدولة وتعطيلها.
من المأمول أن تستمر هذه الحركات الناشطة في العمل السياسي، وأن تتكتل لخوض الانتخابات النيابية التي ستجرى في عام 2017، والتي يبدو أن القوى السياسية القائمة على أساس طائفي تستعد لخوضها ضمن تحالفات تشابه تلك التي عقدتها في انتخابات عام 2009. وتحاول النخب الطائفية الحاكمة منذ أكثر من أربع سنوات تأجيل الاستحقاق الانتخابي النيابي من خلال الحجج بأن الوضع في سورية وتردداته على لبنان لا تسمح بإجراء هذه الانتخابات فيما يكمن السبب الحقيقي في تعثّر توافقها على قانون جديد للانتخابات يؤمن لها مصالحها الانتخابية، وإعادة إنتاج التوازنات الطائفية القائمة.
لا بد من أن نشير الى أنّه في ظلّ هذا النظام القائم على التنافس على السلطة والنفوذ بين ممثلي الطوائف نجح السياسيون من خلال الدروس المستقاة من الحروب والأزمات التي عصفت بالمجتمع اللبناني منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم في اعتماد الديموقراطية التوافقية سبيلاً لتقاسم المغانم وإدارة الشأن العام، مع حرص هذه النخب الطائفية على حفظ حقوق الطوائف واحترام الحريات الفردية وحرية المعتقد لثماني عشرة طائفة، وبالتالي احترام التنوع القائم. وكان من الطبيعي أن تبرز إشكالية متكرّرة في طريقة إدارة الحكم وتوزيع المغانم في بلد متعدّد الطوائف ومفتوح على التدخلات العربية والخارجية، وأن تنتج بين الحين والآخر ممارسات غير ديموقراطية. ولكن لم يمنع لبنان من التميّز عن الدول المحيطة به والتي اعتمدت أساليب الديكتاتورية في محاولاتها لصهر مجتمعاتها وتأمين وحدتها وتجانسها الإجتماعي والسياسي. من هنا تبرز أهمية لبنان ومميزات الحكم فيه كبلد يجمع 18 طائفة، ومفتوح على التعددية الثقافية من خلال اعتماده نظاماً تعليمياً وجامعياً مفتوحاً على كل الثقافات الشرقية والغربية.
وتجدر الإشارة إلى أن لبنان نجح أيضاً في استيعاب فكرة التعددية القومية اذ سمح للأرمن والأكراد بممارسة نشاطهم السياسي، وإقامة أحزابهم ومؤسساتهم الخاصة، ومن دون أن يؤثر ذلك سلباً في دور الجماعتين في تفاعلهما مع المصالح الوطنية، ودورهما السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
انطلاقاً من هذه التجربة الخاصة في التعددية اللبنانية الطائفية والقومية، وعلى رغم كل المصاعب والأزمات التي واجهتها، باتت بعض الدول المهتمة بما يجري في بعض الدول العربية بالتساؤل عن مدى إمكان تطبيق النموذج السياسي- الاجتماعي اللبناني كمخرج من الأزمات الراهنة، وبالتالي الحفاظ على وحدة هذه الدول التي تواجه خطر التشظي نتيجة التناقضات المتفجرة بين مكوناتها التعددية الدينية والقومية. ولا بدّ هنا من التساؤل عن إمكان نجاح هذه العملية، اذ لا تملك المجتمعات العربية والإرث اللبناني للتعدّدية السياسية والثقافية والذي يمتد على ثلاثة قرون.