كتبت ليا القزي في صحيفة “الأخبار”:
بعد 6 سنوات من النزوح السوري إلى لبنان، لم يتمكن أركان الدولة من التعامل مع الملف خارج حساباتهم السياسية والعنصرية. ستّ جهات رسمية تعمل على هذا الخط، كلّ منها يحاول فرض رؤيته الخاصة بعيداً عن المصلحة الحقيقية للدولة. التناقضات تُشكل مكاناً مثالياً للمجتمع الدولي حتى يتمكن من فرض رؤيته
منذ خريف 2011، وقضية النازحين السوريين إلى لبنان تُعَدّ من أهم الملفات الداخلية اللبنانية. انقسمت القوى السياسية حوله، ولسنوات لم تتمكن الدولة من وضع سياسة موحدة للتعامل مع الأزمة. مقاربة كلّ طرف لموضوع النازحين تبعاً لموقفه من النظام السوري أدّت إلى تعقيد الوضع. بعد دخول الأزمة السورية عامها السابع، ومحاولة المجتمع الدولي تحميل عبء النازحين للدول المضيفة وحدها، وفرض التوطين، لا يزال لبنان عاجزاً عن تقديم رؤية واحدة. كلّ ما يتعلّق بهذا الملف يُقارب إما وفقاً لمصالح كلّ طرف، وإما بخلفيات طائفية وعنصرية.
حتى التسمية لم يُتَّفَق عليها إلّا أخيراً، فاعتُمدت كلمة «نازحون». التسمية سياسية وليست قانونية، لأنّ للاجئين حقوقاً لا يريد لبنان تأمينها، منها حقهم في عدم العودة إلى بلدهم.
حالياً، هناك ستّ جهات سياسية في الدولة تُتابع هذه القضية: رئيس الحكومة سعد الحريري، وزير الشؤون الاجتماعية بيار بو عاصي، وزير الدولة لشؤون النازحين معين المرعبي، اللجنة الوزارية التي تضم الوزارات المختصة، مستشار رئيس الحكومة لشؤون النازحين نديم المنلا، ومستشار رئيس الجمهورية للتعاون الدولي الياس بو صعب، فضلاً عن المؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية، التي تلّقت، باسم النازحين، أموالاً ضخمة. «شهيّة» السياسيين لمتابعة هذا الملّف، دفعت إلى طرح عددٍ من الأسئلة. هل السبب كمية المساعدات التي يتلقاها لبنان؟ أم رغبة كلّ فريق فرض رؤيته السياسية؟ ما هو دور كلّ من المعنيين؟ وكيف يجري التنسيق في ما بينهم، وسط ما يُحكى عن «تشنجات» بين وزارة الشؤون الاجتماعية (المُكلفة منذ حكومة الرئيس نجيب ميقاتي متابعة ملّف النازحين) ووزارة الدولة لشؤون النازحين، واعتراض عدد من الوزراء على ما عدّوه تدخلاً من المرعبي في شؤونهم؟ هل جرى التوصل إلى رؤية موحدة؟ خاصة أنّ لبنان عائد من مؤتمر بروكسيل (عُقد في 5 نيسان)، حيث رفع تقريراً كان هناك خلاف حوله بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. تعدد الجهات التي تهتم بملف اللاجئين يُتعامل معه رسمياً وكأنه أمر طبيعي، فيعتبر نديم المنلا أنّ ذلك «يعكس أهمية الملف بالنسبة إلى الحكومة». علماً أنّ «الاهتمام» يفترض توحيد الجهود والمرجعية، وعدم مقاربة الأمر وفق منطق المحاصصة.
يؤكد المنلا لـ «الأخبار» أنّ ملف النازحين يُقسم إلى ثلاثة أقسام: «سياسة الدولة تجاه أزمة النزوح، التنسيق بين الوزارات المعنية والمنظمات الدولية في ما خصّ المساعدات، والبُعد التنموي والاستقرار الاقتصادي». اللجنة الوزارية تُتابع الثلاثة، «والشق التنفيذي بيد الوزارات حسب اختصاصها». إلا أنّ «الشخص الأساسي، ومن يلعب دور المُنسق هو وزير الدولة». مُشكلته أنه لا يملك جهازاً تنفيذياً، «هو يُصارع وحالته غير سهلة». يتقاطع كلام المنلا مع معلومات «الأخبار»، بأنّ الوزارات المعنية بملف النازحين لا تتجاوب مع طلب المرعبي الاطلاع على ما تملك من معلومات، لكونه لا يملك أي سلطة تخوله ذلك. ولكنّ المنلا لا يوافق تماماً، لأنّ «التنسيق كامل، على الأقل بين المرعبي وبيني». إضافة إلى التنسيق بين الوزارات والأمم المتحدة، «يُتابع المرعبي سياسة الدولة والإجراءات المطلوبة لتنفيذ هذه السياسة». دور وزارة الشؤون الاجتماعية «أصعب لكونه يتعلّق أيضاً بتأمين حاجات المجتمع المضيف للنازحين».
في خلال كلمته في بروكسل، قال الحريري إنّ لبنان لم يعد قادراً على مواجهة أعباء النزوح السوري من دون مساعدة دولية. لذلك، «طلبنا القيام باستثمارات لتأهيل البنى التحتية، واستيعاب اليد العاملة السورية إلى حين عودتها، وتوفير فرص عمل لآلاف اللبنانيين، وتنشيط الاقتصاد اللبناني». هذا الشقّ من العمل يتابعه المنلا. أما بو صعب، فيتسلح بالمادة ٥٢ من الدستور، ليُبرر دوره. المادة تنصّ على أنّ رئيس الجمهورية يتولى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة، ولا تُصبح مبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء. لم يحل التبرير الدستوري دون السجال بين الوزير جمال الجراح وبو صعب، بسبب ما وصفه وزير الاتصالات بـ«عدم اتباع الأصول الدستورية والتزام حدود الصلاحيات»، بعد أن كان بو صعب قد أعلن أنه سيتسلم ملفات التعاون والتمويل الدولي. إحدى الجهات المعنية بـ«النازحين» تؤكد أنّ بو صعب «لا يملك صلاحيات، بل يُكلف من الرئيس ميشال عون متابعة بعض الملفات». بعد الاستفزاز المتبادل بين الفريقين، «طلب الحريري من بو صعب المشاركة في بروكسل، وأسهم في إعداد ورقة لبنان إلى المؤتمر». وبين وجهات النظر المختلفة، تلعب اللجنة الوزارية دور الحَكَم.
أول ما يخطر في بال المسؤولين لدى سؤالهم عن سبب تهافت معظم الجهات للعمل في ملفّ النازحين هو «المساعدات». إلا أنّ إحدى الجهات الستّ ترى أنّ الأمر «لا يتعلق بالخلاف السياسي حول العلاقات مع سوريا». يوافق المنلا على أنّ «المنافسة» ليست بسبب المال «الذي يصل إلى المنظمات غير الحكومية، وليس إلى الدولة التي تتلقى الأموال فقط في ما خصّ المشاريع التنموية المتعلقة بالوزارات المختصة». لذلك، يجري حالياً تعديل سياسة الدولة تجاه هذا الملف، ويُعدّ المرعبي المسوّدة بالتنسيق مع أعضاء اللجنة الوزارية «ومن المُفترض أن تُعرض في اجتماعها المقبل». من أبرز ما تتضمنه المسودة، وفق المنلا، «عدم الإبعاد القسري وتأييد العودة الآمنة بأسرع وقت ممكن بما يتماشى مع مصلحة لبنان العليا، اعتماد تسمية النازحين، أهمية تعدادهم… المسودة يجب أن تعكس الحد الأدنى من التوافق». ماذا عن التواصل مع سوريا من أجل حلّ الأزمة؟ يجيب المنلا بأنّ الحريري «في ظل الظروف الحالية لن يتواصل مع النظام السوري». نقطة خلافية أخرى هي قيام المخيمات على الحدود التي يستبعد المنلا إنشاءها، «كذلك إنّ التجربة في الأردن بينت أنّها ليست ناجحة تماماً ومشاكلها كبيرة».
إضافة إلى «التشنج» بين الوزارات المعنية ووزارة الدولة لشؤون النازحين، لم تغب التوترات بين رئاسة الجمهورية ممثلة ببو صعب ورئاسة الحكومة في خلال الإعداد لورقة الوفد اللبناني إلى بروكسل. ظهر التباين خاصة حول نقطتين: التعاون بين المجتمع الدولي ولبنان، ورغبة فريق رئيس الجمهورية اعتماد تعبير «العودة الآمنة» عوض «العودة الطوعية». وصل الأمر إلى حدّ تهديد بو صعب، في خلال اجتماع ضمّ الحريري وممثلي الجهات الأوروبية، أنه إن لم يؤخَذ بالملاحظات فسيُعلن أنّ الورقة لا تُمثل موقف الدولة اللبنانية. تأخر الاتفاق على الصيغة إلى ما «قبل ليلة من المؤتمر»، بحسب المنلا. ورغم ذلك، تؤكد مصادر مواكبة أنّه «لن يكون هناك خلاف بين بعبدا والسرايا». تُجمع الجهات التي تواصلت معها «الأخبار» على أنّه خلافاً للحكومات السابقة «أصبحنا نُنسق أكثر ومنظمين بنحو أفضل». قد تكون «النية الحسنة» موجودة لذلك، ولكن ما حصل بين الحريري وبو صعب لا يُبشر بالخير. لا شيء يمنع تكرار شدّ الحبال بين الطرفين، ما دام الملّف موزعاً على ستّ جهات تنتمي إلى تيارات سياسية متناقضة، يحاول كلّ منها تغليب رأيه على الآخر. كذلك لم يتوصل أولياء الملف بعد إلى سياسة موحدة، الأمر الذي سينعكس سلباً على المساعدات المُرسلة، ووجود النازحين، وسيتيح المجال للمجتمع الدولي لفرض سياسته مستفيداً من التناقضات.