كتب عماد مرمل في صحيفة “الديار”:
ما حصل صباح امس عند مداخل العاصمة، وعلى العديد من الطرقات الدولية ابعد من حدود زحمة سير خانقة. ما جرى شكّل استباحة لكرامة اللبنانيين وإهانة جماعية لهم في وضح النهار، بقدر ما شكّل في الوقت ذاته سقوطا جديدا للسلطة التي بدت أعجز من ان تفرض هيبتها على.. شاحنة!
هكذا، وببساطة شديدة، قرر بعض اصحاب الشاحنات المعترضين على اقفال المرامل والكسارات ان يعبروا عن احتجاجهم عبر قطع شرايين مرورية حيوية، وبالتالي معاقبة آلاف المواطنين الذين تحولوا الى سجناء، وصارت سياراتهم زنزانات حديدية.
اساء اصحاب الشاحنات الى قضيتهم واخفقوا في الدفاع عنها، عندما اختاروا ان يبعثوا برسالتهم الى المعنيين، عبر بريد «اللحم الحي» للمواطنين الذين قادهم الحظ العاثر الى الوقوع في الفخ الصباحي، بينما كان يُفترض بمن يعتبر انه صاحب قضية محقة ان يكسب الرأي العام الى جانبه، لا ان يعاديه.
مرة أخرى، ينتقم الضحايا من الضحايا، في مشهد جديد من مشاهد جلد الذات ولحس المبرد. صحيح، ان الكثيرين يعتاشون من عمل الشاحنات، وان توقيف عملها او تقنينه بشكل اعتباطي يرتب تداعيات اجتماعية لا يجوز تجاهلها.. لكن الصحيح ايضا ان مشكلة العاملين في هذا القطاع ليست مع الناس الذين كانوا بصدد التوجه الى اعمالهم وبينهم من هم في وضع معيشي لا يقل صعوبة، وبالتالي فقد كان من الخطأ الاصطدام بهم والتعرض لهم.
والاسوأ من كل ذلك، ان الطرقات بقيت لساعات طويلة تحت سيطرة اصحاب الشاحنات، على مرأى ومسمع العناصر الامنية التي اكتفت في المرحلة الاولى بتأدية دور «الوسيط» او قوة الفصل بين المعتصمين والمواطنين، حتى حين كان بعض المنفعلين من المحتجين يلجأون الى استخدام العنف والتكسير، لمنع اختراق اي سيارة الحصار المضروب.
ان هذه الخفة في التعامل مع مصالح الناس، تعكس نمطا متوارثا من الاستهتار بمشاعرهم وكرامتهم، وكأن المواطن مجرد رقم في جدول حساب، يُستخدم تارة في «القسمة» وطورا في «الضرب». وليس معروفا كيف لطبقة سياسية حاكمة تعجز عن حماية حق المرور للمواطن على طريق دولية، ان تمنحه حق العبور الى الدولة العادلة والقوية، وكيف لطبقة من هذا النوع تدوس الشاحنات على هيبتها ان تنجح في وضع قانون انتخاب منصف وعصري.
ولئن كان مجلس الامن المركزي قد اتخذ في ما بعد قرارا بمنع قطع الطرقات، بالتزامن مع تمكن «فرع المعلومات» من توقيف احد المعتدين ممن ضبطتهم الصورة بالجرم المشهود.. إلا ان هذا الاستدراك المتأخر لم يحجب فضيحة الصباح ولم يستطع اخفاء الندوب التي خلَفتهاعلى جسم السلطة.
وبصراحة اكبر، لقد بات الرئيس ميشال عون معنيا قبل غيره بالتدخل لتصويب مسار الامور، لان «الهزات الارتدادية» للملفات النازفة بدأت تصيب قصر بعبدا، والناس الذين راهنوا على عهد الجنرال للانتقال الى وطن افضل راح يتسرب اليهم شيء من الاحباط وخيبة الامل، مع تلاحق الانتكاسات.
ويسجل للرئيس عون انه سارع الى الاتصال بوزير الداخلية نهاد المشنوق وابلاغه بضرورة فتح الطرقات سريعا والا سيطلب الاستعانة بالجيش، وعلى هذا الاساس عقد مجلس الامن المركزي بالتفاهم بين الرئيسين عون والحريري.
وحسنا فعل الرئيس نبيه بري بالتبروء من التحرك العبثي الذي حصل، والتنديد به، خصوصا ان هناك من افترض ان «انتفاضة» اصحاب الشاحنات تحظى بتغطية حركة امل، وانها تنطوي في «بطانتها» على «رسالة مشفرة» من الحركة الى اطراف اخرى، فاتى موقف بري ليدفع الى استبعاد هذا السيناريو من دون الغاء فرضية وجود رابط بين التحرك الاحتجاجي لسائقي الشاحنات ومصالح بعض النافذين من اصحاب الكسارات والمقالع التي جرى توقيفها عن العمل لافتقارها الى الترخيص القانوني.
طريق القانون
اما الطريق الى قانون الانتخاب، فلا تزال غير سالكة وغير أمنة، بفعل القنص السياسي المتواصل على المشاريع المطروحة والتي لم ينل اي منها بعد التوافق المطلوب.
وقد استدعى الاقتراب التدريجي من موعد جلسة التمديد في 15ايار تسارعا في وتيرة الاتصالات السياسية، التي كانت عين التينة محورها، حيث التقى الرئيس نبيه بري الرئيس سعد الحريري بحضور الوزير علي حسن خليل ونادر الحريري، بعد لقاء بين خليل والوزير غازي العريضي.
وكان الحريري واضحا بعد اجتماعه مع بري في رفضه للتمديد والفراغ، مبديا انفتاحه على الطروحات الانتخابية المتداولة وداعيا الاطراف الاخرى الى تقديم تنازلات متبادلة للالتقاء حول مشروع مشترك.
ومن المؤكد ان موقف الحريري المعارض للتمديد سيخلط حسابات جلسة 15 ايار، وسينطوي على جرعة اضافية من الضغط في اتجاه محاولة ابتكار قانون انتخابي في ربع الساعة الاخير، قبل الخوض الاضطراري في الخيارات الصعبة.
في هذا الوقت، نقل زوار الرئيس عون تأكيده انه سيمشي بالقانون الذي تتوافق عليه القوى السياسية، وإن يكن شخصيا يفضل النسبية الكاملة وفق دوائر وسطى، باعتبارها تؤمن اوسع تمثيل ممكن.
والمح عون امام زواره بان لديه حلولا للحؤول دون وقوع الفراغ او التمديد، معتبرا ان موعد 15 ايار ليس بالضرورة الحد الزمني الفاصل، وان امكانية التفاهم على قانون تبقى قائمة حتى نهاية ولاية المجلس الحالي.
ويرفض عون مبدأ البحث في احتمال التمديد لولاية المجلس الحالي خارج الاطار التقني، على قاعدة ان مجرد القبول بمناقشة الخطة «ب» يعني السماح بسقوط الخطة «أ» وهي اجراء الانتخابات. ويعرب عون عن شعوره بان حلا سيولد، إما قبل منتصف ايار وإما بعده، لكن بالتاكيد قبل الوصول الى الفراغ في 20 حزيران المقبل.
ويستنتج من يلتقي رئيس الجمهورية انه حريص على محاكاة هموم الناس وتخصيص مساحة واسعة لاستقبال مجموعات منهم والاستماع الى مطالبهم.
العقوبات الاميركية
وفيما ينشغل اللبنانيون بهمومهم الداخلية المتفرقة، يستمر الكونغرس في درس مسودة مشروع توسيع العقوبات الاميركية على حزب الله، وهو مشروع ستكون له مضاعفات وخيمة على اكثر من مستوى، إذا جرى اقراره بصيغته الحالية، بالنظر الى اتساعه وانفلاشه اللذين من شأنهما ان يسمحا لبنوده بان تغطي حيزا واسعا من الطائفة الشيعية.. وما بعدها.
ويبدو واضحا ان هذه العقوبات، التي ستكون مؤلمة ومتمددة، ترمي الى إبعاد البيئة الحاضنة للحزب عنه، من خلال إشعارها بان الاستمرار في دعمه سيكون مكلفا لها.
ربما لا يقدّر البعض حتى الآن خطورة ما يحضر في كواليس الكونغرس، لكن العارفين بما يحاك في «المطبخ الاميركي» من «طبق مسموم»، بتحريض اسرائيلي، يدركون ان مفاعيله المباشرة وغير المباشرة لن تمر مرور الكرام، ولن تتمكن المعدة اللبنانية من هضمها بسهولة.
وحتى خصوم حزب الله الداخليين قد لا يكونون متحمسين كثيرا لهذه «الحمولة الزائدة» من العقوبات، لمعرفتهم بانها اخطر وادق من ان يتم استثمارها في اللعبة الداخلية. وهناك، في بعض الاوساط الدولية الواقعية، من يحاول ان ينصح واشنطن بالتروي وعدم الذهاب بعيدا في مجازفة العقوبات «الشاردة»، تجنبا للتداعيات المحتملة على اكثر من صعيد.
ويؤكد المتابعون لهذا الملف ان ايار هو شهر حاسم لجهة تحديد المحتوى النهائي للقانون، لافتين الانتباه الى ان امام الدولة اللبنانية فرصة زمنية محدودة لمحاولة لجم الاندفاعة الاميركية المتهورة، وبالتالي المطلوب من الآن وحتى نهاية ايار بذل اقصى الجهود الممكنة وتوظيف كل العلاقات وعناصر القوة للحؤول دون اصدار الكونغرس هذا القانون الفضفاض الذي من شأنه ان يضع كل مؤيد لحزب الله او لخط المقاومة تحت رحمة «المشرّع الاميركي».
ويوضح هؤلاء ان الرئيس عون هو من اشد المتحمسين لكبح جماح القانون المفترض، لافتين الانتباه الى انه يجري لهذا الغرض اتصالات في اتجاهات عدة.
ويشير المتابعون الى ان واشنطن يجب ان تأخذ بعين الاعتبار ان لدى لبنان العديد من الاوراق المؤثرة التي يمكن لمفاعيلها ان تهدد مصالح اقليمية ودولية، اذا تم تجاوز الخطوط الحمر في الصراع، ومن بين عوامل الضغط المضاد: ورقة الغاز والنفط، سلاح المقاومة، الجوار مع فلسطين المحتلة، حاجة الغرب لحماية الاستقرار الداخلي من أجل الابقاء على قرابة مليون ونصف مليون نازح سوري في «قاعة الانتظار» اللبنانية، بينما اي ضرب لهذا الستاتيكو المرهف سيدفع الكثيرين من النازحين التدفق نحو دول غربية.
ويستغرب المواكبون لهذا الموضوع كيف ان الولايات المتحدة تستعد لاصدار قانون عقوبات جامح، بالتزامن مع مبادرتها الى وضع حجر اساس لبناء سفارة اميركية جديدة بكلفة مليار دولار تقريبا، إذ كيف يمكن اتخاذ قرار باستحداث سفارة خُصصت لها هذه الموازنة، في بيئة يُراد لها ان تكون غير مستقرة.
وفي سياق متصل، قالت مصادر دبلوماسية في بيروت، ان هناك قلقا من طبيعة العقوبات الجديدة المقترحة لانها فضفاضة، ولا تصيب حزب الله حصرا، بل تشمل البيئة الشيعية عموما، وقد تطال ايضا حلفاء له في البيئات الاخرى، لا سيما انها تمنح وزارة الخزانة الاميركية قدرا كبيرا من الاستنسابية في تحديد بنك الاهداف.
وتعرب المصادر عن قلقها من التداعيات التي يمكن ان تترتب على اجراء من هذا النوع، منبهة الى ان هذه العقوبات التي سترتب آثارا على الواقعين السياسي والاقتصادي في لبنان ربما تؤدي الى اهتزاز الاستقرار النسبي، ومحذرة من مخاطر محاولة العبث بهذا الاستقرار، في ظل وجود قرابة مليون ونصف مليون نازح سوري في لبنان.