كتبت ربى منذر في صحيفة “الجمهورية”:
ترجّل من السيارة، لحق به أمام أعيُن المارّة حاملاً سكّيناً ومصوّباً إياه نحو ضحيته. لم ينفع صراخ زوجته وتوسّلها آنذاك، ولا كاميرات المراقبة أو زحمة الناس في الحي. إقترب منه بدم بارد وطعنه طعنات عدة في مختلف أنحاء جسده، وترك ساحة الجريمة مكملاً حياته الطبيعية، فهو تربّى على مقولة “قَوّصو وطلاع عالبيت”.على غرار حادثة جورج الريف التي صودف أن وثّقتها الكاميرات، حوادث عدة تتكرّر يومياً، وسواء كان السبب أحقية مرور أو كوب نسكافيه، أو غيرة زوجية أو ميراث عائلي أو غيرها من الأسباب، بات “حق اللبناني رصاصة”.
لكن ما يلفت في هذا السياق هي الإحصاءات الجديدة التي تؤكد أنّ غالبية المجرمين في هذا المجال، كانت أسلحتهم غير مرخّصة، وهو ما يفتّح العيون على حقائق أخرى تقلب موازين تحميل المسؤوليات في هذه الظاهرة. التفاصيل يرويها مصدر أمني لـ”الجمهورية”.
مليونا قطعة سلاح
أعادت ظاهرة الجرائم التي حصلت في الفترة الأخيرة الى الواجهة ملف “السلاح المتفلّت” الذي كان يحمل معنى سياسياً في السابق، أي سلاح “حزب الله” والفلسطينيين و”سرايا المقاومة”.
وعلى رغم أنّ هذه الجهات تتحمل مسؤولية تجاه هذه الظاهرة، أكان من ناحية توزيع السلاح أو بيعه لأهداف سياسية، لكنّ تجاراً آخرين تغطيهم جهات سياسية وحزبية أغرقوا السوق بالسلاح، حتى بات يُحكى عن نحو مليوني قطعة سلاح ما بين خفيف ومتوسط، موزعة بين الناس وموجودة في البيوت، تتراوح ما بين الـ”أر بي جي” مروراً بالرشاش وصولاً الى المسدس، يعود بعضها الى يوم حُلّت الميليشيات في التسعينات، حين اتخذ البعض أسلحة وخبّأها في بيته.
2005: محطّة تغييرية
قبل هذا التاريخ، كان السلاح موجوداً ولكن بكمية أقل، وفي الفترة التي سبقت “7 أيار” وصل انتشار السلاح الى حدود الـ80 في المئة بين اللبنانيين، حيث كان هناك عاملان يضبطان الوضع قبل هذه المرحلة: أولاً تطبيق عقوبة الإعدام بعد الحرب، والتي أخافت الناس وردعتهم عن استخدام السلاح، وثانياً الإحتلال السوري العسكري والأمني الذي صعّب حمل اللبنانيين للسلاح ونقله.
أمّا بعد الـ2005، ومع “الضربات” التي استهدفت الأجهزة الأمنية وأضعفتها وقسّمت الدولة عمودياً ما بين “8 و14 آذار”، ويوم حصلت أحداث 7 أيار ونزل الناس الى الشوارع بأسلحتهم وأغلقوا بيروت والمطار، وبعد المعارك والجولات التي شهدتها طرابلس، فإنّ الدولة فقدت هيبتها وبات كلٌ يأخذ حقه بيده، مستخدماً ما توافر له من أسلحة.
سكاكين في الجِيَب…
ما عزّز مشكلة السلاح المتفلت، الأزمة السورية ودخول اللاجئين الى لبنان مع أسلحتهم. ويقول المصدر لـ”الجمهورية” إنه عندما يتمّ توقيف مراهقين سوريين، يُعثر مع غالبيتهم على سكاكين الـ”6 طقات” السهلة الاستعمال. والأمر هنا لا يعود الى تراكم العنف الذي شهدوه فقط، إنما لنتيجة ثقافة “باب الحارة” التي بدأت منذ نحو 8 سنوات وحَللت حمل السكاكين، بدلالة على الزعامة والقوة، وهو ما جاء بناءً على دراسات أجريَت.
الى ذلك، برزت ظاهرة استخدام السكاكين في الإشكالات بعد مقتل الريف، حيث تفتّحت العيون على سهولة اقتنائها خصوصاً أنها لا تحتاج الى تراخيص.
قتل بأسلحة صيد؟
أمّا اللبنانيون، فيقتنون الأسلحة في بيوتهم منذ ما قبل الحرب، وإن لم يكن بالحجم الذي وصلت إليه بعدها. ففي فترة الحرب كان فوج شرطة يتبع لكل ميليشيا، يضبط السلاح ويتدخل أثناء استخدامه في الإشكالات.
لكنّ اللافت، هو أننا عندما نتحدث عن السلاح المتفلت، فالمقصود ليس السلاح ذات الهوية السياسية فقط، بل أسلحة الصيد أيضاً والتي يمكن استخدامها أو توضيبها بطريقة خاطئة، لتؤدي بالتالي أحياناً الى وقوع عدد لا يستهان به من الضحايا، إذ كشفت الدراسات أنه يشكّل نحو ثلث عدد الذين يقتَلون خلال إشكالات تستخدم فيها الأسلحة.
وقد درجت عادة اقتناء أسلحة الصيد خلال فترة التضييق على شراء الأسلحة الحربية وغلاء أسعارها نتيجة زيادة الطلب وانخفاض العرض، حيث لجأ الناس الى شراء الـ”بومب أكشن” من محال الصيد، وهي بارودة تحتاج الى ترخيص مرة واحدة من وزارة الزراعة للصيد، فانتشرت بكميات كبيرة، وأدّت أحياناً الى حالات وفاة سواء في رحلات الصيد أو في المنازل نتيجة سوء استخدامها.
السلاح الأميري
إذاً، تشكل هذه الظاهرة في كل تجلّياتها خطراً على المجتمع وتركيبته وعلى العلاقات بين الناس والعائلات، خصوصاً أنها حسّاسة وغالباً ما تتخذ الإشكالات والجرائم فيها الطابع الطائفي.
ومن أنواع الأسلحة في المجتمع، هناك السلاح الأميري، الذي قد يكون أداة جريمة بدوره، إذا افتقد حامله لهدوء الأعصاب والنفسية الحميدة، فالسلاح في أيدي رجال الأمن لا يُبرّر استخدامه خارج الخدمة وفي إطار لا يخدم عملهم، وهو تماماً ما تجلّى في الجريمة التي ارتكبها المؤهل في الأمن العام طوني عبود الشدياق قاتلاً 4 مدنيين أبرياء، أو الإشكال الذي وقع في أحد مطاعم أنطلياس واستُخدم فيه السلاح الأميري في غير مكانه، أو غيرها من الحوادث.
إطلاق النار ابتهاجاً
ومن أبرز ظواهر السلاح المتفلّت، هو إطلاق مناصري الزعماء السياسيين النار عند ظهورهم على التلفاز، رغم أنه انخفض في الآونة الأخيرة بعد وقوع جرائم عدة غالبية ضحاياها من الأطفال، ومناداة الزعماء بمنع هذه الظاهرة، خصوصاً أنّ النيران كانت توجَّه في بعض المرات من مناطق بشكلٍ مقصود الى مناطق على حساسية معها.
هذا فضلاً عن إطلاق النار ابتهاجاً أو حزناً، إذ حتى الذين يحملون شهادات “البريفيه” نالوا قسطهم من إطلاق النار فرحاً بهذا “الإنجاز العظيم”، عدا عمّن باتوا في الحياة الثانية وتسبّبوا خلال موتهم ومن دون أن يدركوا أو يريدوا ذلك، بحزنٍ في عائلات أخرى قد تكون فقدت فرداً منها قبل أوانه.
القانون… لا يُطبّق
أمّا القانون فواضح جداً في هذا الموضوع، وبحَسبه من غير الجائز لأيٍّ كان حمل السلاح من غير العسكريين، وهو يُحدّد من يحق لهم حَمله، وهم أشخاص تكون حياتهم معرضة للخطر، كعمّال الصيرفة، أو من يعملون بالذهب، إضافة الى من ينقلون الأموال، فضلاً عن الذين تصلهم تهديدات تكون الدولة متحرّية عنها، لذلك فإنّ الرادع القانوني موجود، لكنّ المشكلة في تطبيقه.
وفي هذا الإطار، تَقتني كل منازل سويسرا أسلحة، لكنها لم تتسبّب يوماً بجرائم من هذا النوع، والنسبة هي صفر في المئة بحسب المعلومات، فوجود السلاح الفردي هو أمر طبيعي في كل دول العالم نتيجة المخاطر البديهية، فكيف الحال بالنسبة الى لبنان؟ لكنّ الفرق يكمن في انعدام تنظيمها، خصوصاً أنّ السلاح منتشر في البلد نظراً لمروره بفترات فوضى، وهنا لا تعود المشكلة الى تقصير الدولة فقط والتي لا يمكنها دخول كل منزل وتفتيشه، بل للثقافة التي باتت تحلّل على الجميع استخدام السلاح، وإن لأتفه الأسباب.
أسعار جنونية
في لبنان، يتاجر بائعو الأسلحة بها في اتجاهين، فهم يصدّرون بعضها ويستوردون أخرى، فمسدس “غلوك” مثلاً، يُباع في أميركا بـ600 أو 700 دولار، فيما يصل ثمنه في لبنان الى 4000 و5000 دولار عند ازدياد الطلب عليه.
أما طريقة رفع الأسعار فتمر بمراحل عدة، فالجيش الأميركي مثلاً يعطي للجيش العراقي رشاشات “م4″، حيث يبيعها العسكري العراقي بـ700 دولار، ويدفع التاجر لتمريرها عبر الحدود السورية نحو 150 دولاراً، والسعر نفسه عبر الحدود اللبنانية، ليأخذها التاجر الكبير بـ1000 دولار ويعطيها إلى “أصغر” منه بـ1500 دولار حتى تصل الى الشاري أخيراً بـ4000 أو 5000 دولار، وعلى رغم غلاء سعرها لكنه يشتريها ويخبئها على أنها قطعة أساسية. واللافت أنّ هناك دوماً تجار أسلحة أو جهات حزبية تتحكّم بلعبة العرض، رغم توافر كميات كبيرة من الأسلحة على الأراضي اللبنانية.
“السلاح زينة الرجال”
وفي هذا المجال، هناك قول لافت برز عام 1974 في مهرجان إعلان حركة “أمل” في بعلبك، وقد يكون في وقته مبرراً، فآنذاك قال الإمام موسى الصدر: “السلاح زينة الرجال”، وإن كان ربطه بمحاربة اسرائيل وضعف الدولة في السيطرة على المناطق الحدودية واضطرار أهالي بعض المناطق النائية للدفاع عن أنفسهم من المهرّبين أو من عشائر أخرى، إلّا أنّ هذا القول ما زال سارياً حتى اليوم، على رغم تطور المجتمع وتغيّر تركيبته.
إذاً، يبقى السؤال الأساسي: كيف ستستطيع الدولة حل هذا الموضوع، سواء أكان ملف السلاح المتعلق بالميليشيات والذي يُعتبر أبعد من حدودها، أو
السلاح الذي يمتلكه الأشخاص… وفي الحالين يندرجان في إطار السلاح غير الشرعي، لأنّ الجهتين أخذتاه بطريقة غير شرعية نظراً لعدم وجود مكان شرعي لشراء السلاح في لبنان. أمّا الإجابة فواضحة، وفي ظلّها يسأل معظم الناس: هل يجب أن يعود تطبيق حكم الإعدام؟