كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
عندما كانت «داعش» وأخواتها تتألّق إقليمياً، نجحت في خلق بؤرٍ في مناطق ومخيمات لبنانية (طرابلس، عرسال، عبرا…). وعندما بدأ داعمو «داعش» يسحبون أيديَهم منها، في سوريا والعراق، تعرَّضت في لبنان أيضاً لضربات قلَّصت حضورها. واليوم، تدور الفصول الأخيرة من مسرحية «داعش» وأخواتها في سوريا والعراق. ومعها بدأ لبنان عملية «تنظيف» شاملة لاقتلاع بؤر الإرهاب.تبلَّغَت جهات عسكرية وأمنية لبنانية في الأشهر الأخيرة، أنّ «داعش»، تعويضاً لهزائمها المتتالية في سوريا والعراق، قد تَعمد إلى عملية إرباك من الخلف، أي من الجهة اللبنانية، وحيث لا يكون ذلك متوقّعاً.
ولذلك، إنّ لبنان مدعوّ إلى مواجهة أيّ احتمال، سواء على «الجبهة» أي عرسال وجرود رأس بعلبك – القاع، أو في الداخل كمخيم عين الحلوة أو مناطق معيّنة كطرابلس التي يمسِك الجيش اللبناني بأمنها جيداً، بعدما تمّ ضبط خلية انتحارية فيها، قبل أشهر.
وأساساً، كانت القيادات العسكرية اللبنانية تمتلك معلومات عن نيّة «داعش» اجتياح عرسال والتمدُّد عبر مناطق شمالية في اتجاه الشاطئ، ليكون لها منفذ على البحر. وهذه المعلومات كشفَها قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي في حينه.
وكان مخططاً أن يجري في آنٍ معاً تحريك الجيوب والبؤر الإرهابية في عدد من المناطق اللبنانية، وخصوصاً في عين الحلوة – صيدا وطرابلس، ليكون ذلك ورقة في يد «داعش» تستخدمها لتخفيف الضغط العسكري عنها في سوريا.
وفي أيّ حال، وفي معزل عن خطة «داعش» في لبنان، فإنّ هناك قراراً لبنانياً محصَّناً بدعم دولي، سياسي وعملاني مباشر، لإنهاء مواجهة أيّ تحرّك يقوم به التنظيم الإرهابي. والمجتمع الدولي، الحريص على استقرار لبنان، يضع ثقله في هذا المجال.
ويترجَم ذلك الدعم المكثّف والمباشر للجيش بالسلاح والذخائر والمعلومات، وخصوصاً من الجانب الأميركي، والذي عبَّر عنه في وضوح استخدام واشنطن قاعدةَ ريّاق الجوّية. ومن المؤكّد أنّ لبنان كان سيجد صعوبةً أكبر في المواجهة لولا هذا الدعم.
المعلومات تتحدّث عن خطة هادئة ينفّذها لبنان، يبدو أنّها على مرحلتين:
الأولى، تتمثّل في ما يحقّقه الجيش من إنجازات نوعية في جرود عرسال ورأس بعلبك – القاع منذ أشهر. وقد جاءت جولة قائد الجيش العماد جوزف
عون الاستطلاعية للمنطقة بمثابة تتويج لتلك الإنجازات. وارتدت الجولة أهمّية خاصة بشمولها مواقعَ متقدمة جداً.
والحكمة في هذه الخطة تكمن في عدم نزول الجيش بثِقله في المعركة، وعدم الاستعجال في خوض مواجهة عسكرية ضارية في منطقة شديدة الوعورة بتضاريسها، وتتميّز بوجود عدد كبير من المغاور التي يحتمي فيها المسلحون. فالمغامرة هنا قد تكون مكلفة للجيش، وقد يلجأ الإرهابيون إلى أخذ المدنيين اللبنانيين أو النازحين السوريين رهائن ومتاريس لهم، ما ينذِر بوقوع خسائر كبيرة.
ولذلك، يتمّ توجيه ضربات نوعية متتالية إلى الإرهابيين، ما يؤدّي إلى إضعافهم تدريجاً. وهذه الخطة نجَحت حتى اليوم وقلَّصت خسائر الجيش والمدنيين إلى أدنى مستوى، فيما تراجعت قوّة الإرهابيين بنحو ملموس وانقلبت معادلة القوة في الجرود لمصلحة الجيش.
كذلك يعتمد الجيش أسلوبَ الحصار ضد «داعش»، ما يؤدي إلى «خنقِها» بالمعنى العسكري. لكنّ المشكلة التي يجدر علاجها تكمن في أنّ المنطقة مفتوحة على القلمون السوري، ما يَكفل للإرهابيين استمرارَ اتّصالهم بالداخل السوري.
وفي هذا الشأن تبدو المشكلة سياسية لا عسكرية، وفي مجلس الوزراء لا في المؤسسة العسكرية. فمحاصرة «داعش» و«النصرة» في جرود عرسال ورأس بعلبك – القاع تتطلّب تنسيقاً بين الجانبين الرسميين اللبناني والسوري، على غرار التنسيق المقترَح في ملفّ النازحين. وهذا الأمر دونه عقبات حتى اليوم، مع أنّ القوى الحليفة لدمشق تبدو متفائلة بأنه سيكون حتمياً في النهاية.
وهناك مشكلة سياسية أخرى. ففي عرسال، ازدادت مطالبة الأهالي بأن يَحسم الجيش الأوضاع تماماً في البلدة وجرودها، بعدما ذاق هؤلاء تداعيات الفلتان والفوضى. ولكن، في البلدة من يخشى أن يستفيد «حزب الله» من الموقف ليدخلَ إليها أمنياً. فهناك مَن ينظر إلى عرسال بصفتها جزيرة سنّية في بحر النفوذ الشيعي.
وأمّا المرحلة الثانية فهي الحاسمة، حيث تكون عناصر الجراحة العسكرية قد اكتملت وتوافرَت لها كلّ ظروف النجاح، وبالحدّ الأدنى من الأكلاف. وما يجري اليوم، على الأرجح، من شأنه إنضاجُ الظروف للمرحلة. فـ«تنظيف» لبنان من الإرهاب هو قرار متّخَذ، والتفاصيل في طريقة التنفيذ و«الأجندة».
وفي موازاة ما يجري في الجرود، تأخذ خطة عين الحلوة طريقها إلى التنفيذ الهادئ، بعدما رَفض لبنان طلبَ الرئيس الفلسطيني محمود عباس من السلطات اللبنانية أن تحسم أمنَ المخيم، وفضّلَ أن تقوم القوى الفلسطينية نفسُها بإنهاء الحال الشاذة، ما يقلّص خسائرَ الجيش والمدنيين على حدّ سواء.
ويبدو أنّ المعركة الكبرى في عين الحلوة انتهت، ولم يبقَ سوى التفاصيل التي يساهم فيها النزاع الفلسطيني الداخلي على الزعامة. ولا بدّ من خروج بلال بدر ورفاقه من «الوَكْر»، إلى حيث يعلم العالمون أو لا يعلمون…
وقد يجد الخارجون من المخيم أمكنة «يتسرَّبون» إليها، في لبنان كمحطة انتقالية، لكنّهم سيغادرون إلى «مناطقهم» في سوريا. وهناك، ستتمّ تصفية «داعش» التي أدّت دورَها المرسوم، وآنَ الوقت للذين خَلقوها ودعموها أن يستبدلوها بحجارةٍ أخرى على بقعة الشطرنج الشرق أوسطية.