كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:
أقلعت طائرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من السعودية في اتجاه تل ابيب مدشِّنة أوّل رحلة جوّية مباشرة بين البلدين، وهو سيزور حائط المبكى في القدس كأوّل رئيس أميركي وهو يشغل منصبه.لكنّ ترامب يترك السعودية حيث نجح في المحطة الاولى لزياراته الخارجية، وفي جعبته كثير من الاوراق التي يكسبها، وفي طليعتها أوراق الاستثمارات الضخمة والتي قاربت الـ380 مليار دولار، ثلثها تقريباً صفقات اسلحة، ليصل الى إسرائيل حيث الشكوك كبيرة إزاء مشروعه الأهم والمتعلق بتثبيت ركائز تسوية سلمية فلسطينية – إسرائيلية.
وقبيل إقلاع طائرته من واشنطن للبدء بزيارته الخارجية الأولى، كانت التحقيقات حول ملف علاقات فريقه الإنتخابية مع روسيا قد وصلت الى أحد اقرب مستشاريه. هذا الواقع الصعب الذي دخل اليه ترامب وفريق عمله حمله على مضاعفة ضغوطه لاقتناص الحدّ الاقصى من الأوراق الرابحة من جولته الشرق أوسطية.
نجح اقتصادياً في وقت عانت السعودية من سياسة سلفه باراك أوباما والتي نتج عنها تعزيز قوة إيران وقدرتها ووزنها في المنطقة، ما جعل السعودية تزيد من سخاء عقودها مع الولايات المتحدة الأميركية، لكنّ الملف السياسي لا يبدو بسهولة العقود التجارية.
فقبل إقلاع طائرة ترامب من واشنطن، وعلى مسافة قريبة من البيت الأبيض، كانت وزيرة العدل الإسرائيلية ايليت شاكيد التي تنتمي الى حزب «البيت اليهودي» بزعامة نفتالي بينيت تلقي محاضرة في معهد «هادسون» مفادها أنّ جهود ترامب لإعادة إحياء محادثات سلام سيكون مصيرها الفشل. وفي وقت اعتبرت أنّ الفجوة كبيرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، توقّعت تصاعد العنف بعد فشل جهود ترامب وهو ما حصل سابقاً في محطات مشابهة.
وقبل بدء جولة ترامب، وجّهت واشنطن رسالتين سريعتين: الرسالة الأولى جاءت عبر غارة عسكرية جوّية طاولت قوات سورية نظامية مدعومة بمجموعات شيعية حليفة كانت تتّجه الى منطقة التنف القريبة من الحدود العراقية والأردنية. وهذه الرسالة الأميركية أُقرنت بكلام عن أنّ المنطقة «خط أحمر» وفيها قوات غربية، وأهميتها أنها تقطع التواصل البرّي بين العراق وسوريا، ومن خلالهما بين إيران ولبنان أو بين طهران والناقورة.
والرسالة الثانية جاءت من خلال غارة سياسية عبر فرض واشنطن والرياض في آن معاً عقوباتٍ على رئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله» السيد هاشم صفي الدين وهو أرفع موقع في «حزب الله» يجرى إدراج اسمه على لائحة العقوبات حتى الآن بما يشبه الإيحاء بوجود خطة عمل أميركية – سعودية متّفق عليها ضد «حزب الله» جاءت باكورتها مع صفي الدين.
وثمّة رسالة ثالثة استبقت بها واشنطن القمة الأميركية – السعودية، وذلك عبر زيادة منسوب الدعم العسكري والتعاون المخابراتي في اليمن، ولو بدرجة محدَّدة ومدروسة جداً.
وفي المقابل، بادل الحرس الثوري الإيراني الأميركيين بالرسائل. فقبل وصول طائرة ترامب الى الرياض أطلق الحوثيون صاروخاً باليستياً (بركان- 2) في اتجاه العاصمة السعودية، لكنّ الرسالة المدروسة جداً اقتضت إرسال صاروخ من النوع الذي يسهل اعتراضه وإسقاطه.
فالمطلوب رسالة من نوع الرسائل الأميركية، أي رسالة صوتية تُحدِث دويّاً هائلاً ولكن من دون مفعول ضمني جدّي كالذي يُستعمل في الحروب المفتوحة. كذلك أعادت دمشق تجميع قواتها بالتفاهم مع إيران قرب التنف تحضيراً لمعركة عنيفة قريباً جداً، وهي معركة حياة أو موت وغير قابلة للمساومة.
ما من شك في أنّ هذه الرسائل خفّفت من حدّتها نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، فالنسبة المرتفعة وغير المتوقعة التي أدّى اليها هذا الإقبال الكثيف على صناديق الاقتراع، ستدفع بالتخاطب «الحربي» الى شيء من المرونة، خصوصاً أنّ إدارة ترامب لا تسعى للمواجهة المفتوحة مع إيران، بل الى الحدّ من نفوذها الإقليمي، والى استثمار ذلك في علاقتها المفتوحة مع السعوديين.
وليس سرّاً أنّ زيارة ترامب أخذت في أحد جوانبها انتهاء الانتخابات الرئاسية الإيرانية خشية أن تنعكس مواقف ترامب سلباً على توجّهات الناخبين الإيرانيين. وكان معلوماً أنّ التيار المحافظ كان يريد وصول رئيس إيراني من خطه في اعتبار أنّ المرحلة تتطلّب رئيس مواجهة لا رئيساً للتفاوض، لكنّ الصناديق خذلته وبفارق كبير.
وفي السعودية تسويقٌ للقوة العربية المشترَكة والتي باتت معروفة بـ»الناتو العربي»، وهذه الفكرة كان قد تبنّاها ولي ولي العهد السعودي ووزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان مع صهر ترامب جاريد كوشنر.
وبعد ايام من انتخاب ترامب، حصلت لقاءات بين وفد سعودي أرسله الأمير محمد بن سلمان وكوشنر في «ترامب تاور» وسط نيويورك. ولاحقاً أضحى ترامب متحمِّساً للفكرة انطلاقاً من النقاط الآتية:
1 – لأنها تنسجم مع مبدأ «أميركا أولاً» والتي ترتكزعلى عدم التورّط المباشر في نزاعات العالم.
2 – تمسّك واشنطن بالقيادة العسكرية لهذه القوة من دون التورّط العسكري المباشر، وذلك من خلال إنشاء قاعدة عسكرية أميركية في جزيرتي تيران وصنافير المتنازع عليهما بين الرياض والقاهرة.
3 – قوة عسكرية تعمل تحت المظلة الأميركية من دون أن تتحمّل واشنطن تبعاتها المالية.
4 – توسيع دائرة الاستثمار العسكري الأميركي من خلال زيادة مبيعات الأسلحة والذخائر.
5 – ستعمل هذه القوة على ملء فراغ نتيجة النزاع الدائر في سوريا خصوصاً، وكان ممكناً لروسيا أن تملأه في ظلّ إحجام الدول الغربية عن التورّط بنحوٍ واسع في حروب المنطقة.
ولا شك في أنّ ترامب يغادر السعودية مغتبطاً بعد كل هذه النقاط الثمينة التي حقّقها، ما سيسمح له لاحقاً باستثمارها في الداخل الأميركي لتخفيف الضغط الحاصل عليه.
لكنّ محطة إسرائيل تبقى المحطة الاصعب، وفي خطابه أراد ترامب أن يظهر بصورة مختلفة تجاه المسلمين عن تلك التي طبعت صورته خلال الحملات الانتخابية ولاحقاً خلال الأسابيع الأولى لبدء حكمه. تحدّث عن حِلفٍ مع الإسلام المعتدل والحقيقي ضد المتطرّفين، وصارح الزعماء الحاضرين بأنّ بلاده لن ترسل قواتٍ للدفاع عنهم، بل إنّ عليهم تولّي المسؤولية بشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية.
لكنّ اللافت أنّ الذي تولّى كتابة خطاب ترامب، أي مستشاره ستيفن ميلر، وهو يهودي، هو نفسه مَن تولّى كتابة كل خطاباته السابقة بما فيها تلك التي ألقاها خلال الحملات الانتخابية. وهو مَن ساهم، الى جانب زميله ستيف بانون المستشار المتطرّف لترامب، في تأليف وصوغ قرار حظر السفر الذي طاول 7 دول إسلامية قبل أن يسقطه القضاء الأميركي ويرميه في سلة المهملات.
الاستنتاج واضح: ترامب يبدّل في أسلوبه لمتطلبات داخلية وتجارية واقتصادية لكنه في العمق لا يزال هو هو.