طالب مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيق دريان المعنيين بالشأن العام بان يكونوا على قدر المسؤولية التي اوكلت اليهم.
دريان، وفي رسالة شهر رمضان المبارك، قال: “نشاهد حالات لا ترعى فيها القوانين ما يشير الى ازمة في المحاسبة”.
وأضاف: “المؤسسات الكبرى تعاني وتعقد مسائلها لاسباب ما عادت خافية ويريد البعض تسميتها ازمة انقاذ للقوانين ومكافحة الفساد وهي ازمة اخلاقية كل الملفات الوطنية الكبرى معطلة، التأزم السياسي شامل وكذلك التأزم الأخلاقي”.
نص الرسالة كاملاً:
“الحمد لله الذي شرع لعباده الصيام، لتهذيب نفوسهم وتطهيرهم من الآثام، أحمده تعالى وهو المستحق للحمد، وأشكره على نعمه التي تزيد عن العد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أتقى من صلى وصام وحج واعتمر، وأطاع ربه في السر والجهر، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. وبعد:
يقول المولى تعالى في محكم تنزيله: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون”.
ويقول تبارك وتعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”.
أيها المسلمون “يهل علينا هلال شهر رمضان المبارك، ونحن مأمورون بصومه، وبالعيش فيه ومعه، باعتباره شهرا للعبادة والتوبة، والسلوك الخير، والعمل الصالح. لقد حدد الله سبحانه وتعالى لفرض الصوم، وفي شهر رمضان بالذات، سببين: الأول: أنه عبادة مفروضة علينا كما كتبت على الذين من قبلنا في سائر الديانات: قال تعالى “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، الثاني: أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، قال تعالى “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه”.
فالسبب الأول: تعليل تعبدي، ذو فضائل نفسية وخلقية واجتماعية. أما السبب الثاني: فهو شكر وحمد لله سبحانه وتعالى على النعمة التي أسبغها علينا بإنزال القرآن، وبعثة خاتم النبيين محمد، صلوات الله وسلامه عليه. وقد قال سبحانه وتعالى “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”، وهذه الأمور الثلاثة: إكمال الدين، وإتمام النعمة، والرضا، هي مقتضى الرحمة الإلهية، التي وسعت كل شيء. قال تعالى “ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون”، وقال تعالى “كتب ربكم على نفسه الرحمة”، فنحن في شهر رمضان، وفي كل شهر وعام، برحمة ونعمة وعناية من الله سبحانه وتعالى، الذي له الخلق والأمر. ثم إن شآبيب الرحمة والنعمة، والعناية المتنزلة على البشرية، المراد منها أن تتحول إلى أخلاق للأفراد وفضائل، يتعامل بها الناس فيما بينهم بالمعروف. ويبدو ذلك كله درسا تربويا عظيما في رمضان، بالصوم والصدقة ورعاية الأهل والولد، والإقبال على فعل الخير للناس، ومع الناس، وبقدر الوسع والطاقة، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. لكن الآية الكريمة تضيف “لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت”، وهذا هو التوازن الرائع، فيا أيها الإنسان المؤمن، بينك وبين الله عهد ووعد، وإن العهد كان مسؤولا، فما استطعت فافعل، انطلاقا من هذه المسؤولية، وهذه الأمانة التي تحملتها. واعلم أنه من مقتضيات المسؤولية أنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، وذلك لأن النفس الإنسانية العاقلة والعاملة، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت”.
تابع دريان أيها المسلمون ، أيها المؤمنون
“المؤمنون مسؤولون دائما بحكم العهد والميثاق الذي بينهم وبين الله تعالى، ومسؤولون بحكم الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وهناك علامات ومناسبات للتذكير والتقدير، ورمضان صومه وعباداته هو أحد علامات وأعلام هذه المسؤولية الدينية والأخلاقية والإنسانية. والعلماء يقولون “إن الناس مسؤولون عن مصالح أو ضروريات خمس ، هي النفس والعقل والدين والكرامة أو العرض، والملك أو المال”. والنفس تعني الحياة بالطبع، كيف يعنى الإنسان بجسده وصحته، ومأكله ومشربه وأخلاقه. وكيف يعنى بعقله وفكره، وكيف يتدبر أموره، وكيف يحفظ عرضه أو كرامته أو سمعته. وكيف يحفظ دينه. ويحفظ كرامته من الظلم ورذائل الأخلاق. وأخيرا كيف يكسب رزقه، وكيف ينفقه ويتصرف فيه. والمسؤولية فردية في الأساس، لأفراد أحرار، لكنها جماعية أيضا، لأن الإنسان يعيش في أسر ومجتمعات. وفضائل العقل والتعقل، والتدين والكرامة، إنما تصبح فضائل، أو تكون عندما تمارس مع الآخرين أو تجاههم. فالأخلاق تعني كما قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أن (تحب لأخيك ما تحب لنفسك)، وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم (أحب للناس ما تحب لنفسك)، وهذا هو الميزان للأخلاق الفاضلة. فكما تحب لنفسك الصحة والمال، وهناءة العيش، يكون عليك أن تعلم أن هذه الأمور لا تسلم لك، ولا تبقى إلا إذا بذلت وسعك لتكون لقرابتك وإخوانك ومجتمعك، والناس أجمعين”.
أيها المسلمون:
“لقد تعددت آراء المفسرين في قوله تعالى “إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا”، فما هي هذه الأمانة؟ هناك من قال: “هي الدين أو الإسلام. وهناك من قال: “هي الاستخلاف في الأرض لعمارتها”. وقال المفسر المعروف، فخر الدين الرازي: “إن الأولى القول: إنها العقل، واستدل لذلك بخاتمة الآية: الظلم والجهل . فالظلم هو ظلم النفس بتحملها ما لا يطاق، أو لا تطيقه. والجهل يصب في المصب نفسه، أي الجهل بقدر المسؤولية أو مقتضياتها. فمن بين الكائنات جميعا يمتلك الإنسان بالإضافة إلى الغرائز التي تمتلكها الكائنات الأخرى، غريزة أو دافع العقل التمييزي والتدبيري. والظلم والجهل، والعلم والشكر والرشد، وهي الصفات التي تختم بها آيات الصوم في سورة البقرة، إنما تتوجه إلى هذا العقل التمييزي والتدبيري. وهي بهذا المعنى صفات معرفية وأخلاقية. فالإنسان كائن عاقل، وكائن أخلاقي، كما أن الأمانة مفهوم أخلاقي. ولذلك، فإنها ليست مصادفة، هذا الربط القرآني بين الصوم وبين الأخلاق، أخلاق الرحمة، وأخلاق الشكر، وأخلاق المسؤولية، وأخلاق الرشد”.
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون:
“نحن مدعوون وبمقتضى أخلاق الإيمان، وأخلاق المسؤولية، لنكون في أعلى درجات المسؤولية عن النفس، وعن الغير، في ظروف الأزمات بالذات. لأن ظروف التأزم والتوتر، هي التي تهون فيها على الناس الحياة والكرامات، والأديان والممتلكات. وإذا هانت الضروريات أو ضاعت، سقط نظام العيش، وسقطت الأنظمة الوطنية والإنسانية. نحن اللبنانيين كنا الأوائل في العالم العربي، الذين استخدموا تعبير أو مصطلح العيش المشترك. وكنا نقصد بذلك التكافل والتضامن والتعايش بالحسنى والمعروف، ونقصد بالطبع المواطنة التي تعني التساوي في الحقوق والواجبات. وقد كان معروفا عنا أننا مجتمع مسؤولية وإنجاز. وعندما يقال: “إننا في أزمة، فلا يعني ذلك الأزمة السياسية وحسب؛ بل والأزمة الأخلاقية”. نحن نطالب المعنين بالشأن العام، والذين يتولون المسؤوليات، أن يكونوا على قدر المسؤولية التي أوكلت إليهم. والمسؤولية التي نحاسبهم بمقتضاها، هي القوانين والأنظمة المرعية الإجراء. لكننا نشهد ونشاهد حالات كثيرة جدا لا تراعى فيها القوانين ولا الأنظمة. وهذا يشير إلى أزمة محاسبة. بيد أن الأزمة من وجهة نظرنا، قد تجاوزت حدود القوانين إلى حدود الأخلاق. وهذا الأمر يشمل بعض العاملين في الشأن العام، وغيرهم من المواطنين. إذ إن أعلى درجات المسؤولية، تبدو وتتجلى بالفعل، في أخلاقيات العيش المشترك، الوطني والإنساني، الذي يظهر مستواه الأول والأولى في القيم الأخلاقية في الإيثار والتضامن، وصون المال العام، والناتج العام، والصدق مع النفس ومع سائر المواطنين. فالأمر عندنا صار كما قال الشاعر:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا
إن كل الملفات الوطنية الكبرى، تعاني معاناة كبرى، وتتعقد سائر مسائلها لأسباب ما عادت خافية، وصارت حديث المنتديات والشارع، ويريد البعض تسميتها أزمة إنقاذ للقوانين، أو أزمة سياسية، أو أزمة محاسبة أو أزمة فساد، وهي ذلك كله بالفعل. لكنني أسميها لهولها وفظاعتها أزمة أخلاقية. وإذا كان التأزم السياسي والوطني شاملا؛ فإن التأزم الأخلاقي شامل أيضا.
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون:
“إن رسالة رمضان، ورسالة الدين كله، والعقل كله، والرشد كله، هي رسالة مسؤولية، وعلى أساس منها، لا يتحدد إيمان الإنسان فقط، بل وتتحدد إنسانيته. ولذلك يكون علينا باعتبار إيماننا، وباعتبار وطنيتنا، وباعتبار إنسانيتنا، أن نراجع أنفسنا وعقولنا وضمائرنا، لكي نستطيع صون نظام عيشنا المشترك، ونظامنا السياسي، وقبل ذلك وبعده، نظام وجودنا وإنسانيتنا”.
أيها اللبنانيون، أيها العرب:
“تتوالى السنوات، والأزمة الطاحنة تحوط العرب في الدم والأرض والكرامة، والحق في الحياة والحرية، وأن يكون لك وطن ومنزل وولد آمن، وبنت تذهب إلى المدرسة. ما عادت حالتنا تطاق، لا من أنفسنا، ولا في عيون العالم. وعندما أسمع ما يقوله البعض عن اللاجئين السوريين والفلسطينيين، يتملكني الإحساس بأن إنسانيتنا ناقصة، وكذلك قدرتنا على التقدير والتدبير.
لقد كان الحديث كله، وكذلك رسالة رمضان، عن العقل والأخلاق والمسؤولية. ونحن في النهاية عبيد ضعفاء. وقد قال الله عز وجل “وخلق الإنسان ضعيفا”، لكن الله سبحانه قال أيضا: “إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون”، وقال سبحانه في وسط آيات الصوم: “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون”.
اللهم إننا ندعوك سبحانك في مطلع شهر رمضان، شهر استجابة الدعاء، أن تجبر ضعفنا، وترحم أطفالنا من أهوال الفتن والحروب، وأن ترزق أوطاننا السلم والأمن والأمان، وأن تخرجنا من هذه المحنة المستعصية، وأن تهب وطننا السكينة والطمأننة، إنك يا رب العالمين حكيم قدير.
أسأل الله سبحانه، أن يجعله صوما متقبلا، حافلا بالأعمال الصالحة، وبنعم الله ورضاه.. قال تعالى “الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون”. صدق الله العظيم.
وكل رمضان وأنتم بخير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.