كتب علي الحسيني في صحيفة “المستقبل”:
يبدو لافتاً اليوم، حجم الفلتان الأمني الحاصل في بعلبك، والارتكابات الناجمة عن بعض المُخلين بالأمن والمُستهترين بأرواح الناس وأرزاقهم، إذ لا يمر يوم على مدينة الشمس، من دون وقوع جريمة أو إشكال مُسلح، أو عملية سطو وخطف أو أقله تهديد أمن الناس وسلامتهم والتعرّض لكراماتهم. ومن حالة الفلتان هذه، ارتفعت الصرخات في البقاع خلال اليومين الماضيين، مطالبة الدولة ببسط سيطرتها بشكل كامل والقبض على كل من يُخل بالأمن مهما علا شأنه أو كبر حجم الجهات الداعمة له.
يوم أمس، عرضت منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي ووزعت على الطرق تتضمن صرخات مطالبة بوضع حد لكل ما يحصل في البقاع وخصوصاً في مدينة بعلبك التي شيّعت منذ يومين ضحيّة جديدة من ضحايا السلاح المتفلت هي لميس نقوش. وجاء في أحدها: «إذا كنا أحراراً في قرارنا، فهذا لا يعني أننا متآمرون أو عملاء. نحن مقاومون بالفطرة وخزّاننا إمتلأ بدم المحرومين». وطالب منشور آخر بـ«فتح المدارس والجامعات والمصانع وتطوير المستشفيات والمواصلات»، وكأنها صرخة موجهة إلى طرف محدد، يُمعن في إفقار بعلبك ويزيدها بؤساً وحرماناً، وتهميشاً وتكريس منطق الفوضى فيها، وجعلها منطقة خارجة عن القانون ودائماً لمصالح ومنتفعات حزبية.
«لقد أفقرتنا الأحزاب وأعادتنا مئة سنة إلى الوراء»، هي لسان حال كل بقاعي يُسأل عن الحالة الاجتماعية التي يمر بها أبناء المدينة. ويعود البقاعيون إلى زمن المؤامرات التي حيكت ضدهم على يد النظام السوري الذي سرق مليارات الدولارات مما دفعتها دول غربية لإنشاء مشاريع بديلة تعوّض على مزارعي المخدرات في البقاع، من ضمنها زراعة بذور دوّار الشمس. ويعتبرون أن هذه المؤامرات مستمرة حتى اليوم على يد الدويلات التي تحتل مكان الدولة اللبنانية، والتي تحتكر لنفسها زراعة المخدرات في البقاع لصالح جماعاتها و«على عينك يا دولة». وأكثر الصرخات التي تُعبّر عن حالات الغضب نتيجة الوضع المتردي الذي وصلت اليه بعلبك، هي تلك التي تتعلّق بالسلاح المتفلت والذي يسفر عن قتلى وجرحى بينهم نساء وأطفال إضافة إلى إقامة «حواجز» مُصطنعة بين أهل المدينة ووضعهم ضمن تصنيفين: الأوّل مذهبي، والثاني لتمييز الناس بين مقاوم و«عميل».
ضمن سياسة إفقار بعلبك، يدخل الزائر «مدينة الشمس» وفي باله صورة قديمة عن منطقة لم تجرؤ الذاكرة على محوها، مساحات شاسعة من الأراضي لا نبات فيها ولا حياة. مدينة نهر العاصي شبه خالية من الحياة، لا ري يروي ظمأ الأرض ويُخفف عنها لهيب الحر، ولا مشاريع ولا سدود ولا خطط زراعية يُمكن لها أن تُخرج الناس من حالة العوز والفقر. مزارعون يسعون إلى لقمة عيش كمن يبحث عن ماء في الصحراء، لا همَّ إن لفحتهم أشعة الشمس ولوّنتهم بلونها، فالمهم العودة إلى البيت وفي الجعبة زاد يكفي العائلة ولو كسرة خبز أو «شويّة» بطاطا «خرج السلق». مشهد الفقر والعوز واحد، رجال ونساء وأطفال في ثيابهم البالية، فمن سرعين التحتا مروراً بحوش النبي، حوش الرافقة، النبي شيت ودورس وغيرها العديد من القرى وصولاً إلى بوداي وعين بورضاي، جملة واحدة تسمعها «الله يفرجها علينا».
«كُونوا معنا لا علينا»، شعار يرفعه معظم أبناء البقاع كتعبير عن استيائهم من كل ما يحصل على أرضهم عن طريق «الدويلة» المفروضة. يؤكدون خلال أحاديثهم المُعلنة منها والسريّة، أن أصابع اليد لا تُشبه بعضها، بمعنى أن هناك بعض المحازبين لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما يحصل، لكن البقاعيين يرون أن هذه الفئة صغيرة جداً مقارنة بالفئة المنتفعة. وما يُدهش العالم برأي الأهالي هو «البطاقات الحزبية» التي تخوّل حاملها الحصول على مساعدات مادية وتموينية ومعنوية، ويُعامل حاملها على أساس ابن «الست» لا إبن «الجارية». كما تسمح له باقتطاع مساحة من أراضٍ مشاع للدولة ليبني عليها منزله المستقبلي أو مشروعه الخاص. ومن ضمن المنشور المنسوب الى أهالي البقاع ثمة مطالبة بعدم اعتبار المنطقة «قندهار أو الفلوجة ولا الرقّة. نحن لبنانيون ننتمي فكرة وعقيدة إلى هذا البلد».
وجهاء بعلبك، لا يجدون حرجاً من التحدث بصراحة متناهية عن حال المدينة وأهلها. يقولون: «نعم هناك حالات شاذّة تحصل في بلداتنا وقرانا مثل عمليات خطف وسطو وغيرها من الأمور المرفوضة والمُدانة من مجتمعنا البعلبكي لدرجة أننا أصبحنا في نظر اللبنانيين أشبه بمجموعات خارجة عن القانون، ولكنْ هناك سؤال لا بد من طرحه: مَن الذي أوصلنا نحن الأهالي إلى هذه الحالة من الجوع والفقر والعوز؟ أليست الدولة وبتواطؤ من قوى الامر الواقع؟». سؤال مشروع يستوجب البحث عن إجابة له، لكن البحث لن يطول إذ سُرعان ما ستبرز آلاف الأجوبة في عيون الناس وتحركاتهم الرافضة لكل ما يحصل بحقهم، وأيضاً من خلال دعواتهم الى الدولة لزيارة منطقتهم ولو لـ«شرب فنجان قهوة».
في البقاع، ثمة مقولة لقيادي حزبي سابق تتردد في الأوساط: «يبدو أن المُستحكمين والمُتحكمين بوضع البقاع، ما عادوا يرون في الفقراء سوى أداة لتحقيق المشاريع، فتارة يستخدمونهم كورقة تفاوض في الداخل اللبناني لتحسين الشروط وطوراً يتم رميهم في سوريا خدمة للنووي الإيراني. لذا لا بد من توجيه سؤال الى هؤلاء: إذا كنتم فعلاً تعتقدون أن حربكم في سوريا تقع ضمن نطاق الواجب الديني، فلماذا لا تُرسلون أبناءكم للقتال هناك؟ فبعد مرور سنتين على هذه الحرب لم نسمع بأي قريب لكم سقط فيها، بدءاً من حرب القصير وصولاً إلى معركة حلب».