IMLebanon

رندا كعدي… ممثلة قوية بلا شخصية!

كتبت رنا أسطيح في صحيفة “الجمهورية”:

ننتظر أن تبلغ الممثلة في بلدنا سنّاً معيّنة، حتى نسارع، في احتفال أو تكريم، إلى إطلاق لقب القديرة عليها والكبيرة والمخضرمة وغيرها من التسميات. وفيما تنسحب هذه المعادلة على عدد من الممثلات، يلفتنا في السباق الرمضاني الحالي عمل ممثلة مختلفة عن الأخريات، ممثلة لا تسأل عن مشوار ولا عن أدوار ولا مسلسلات أو شخصيّات… ممثلة لا ترضى سوى أن تكون قديرة بكلّ ما تملكه من موهبة وتقنيات وانفعالات وإسقاطات، ممثلة إسمها رندا كعدي، قديرة من الدور الأوّل وحتى «آخر نفَس»…في مسلسل «لآخر نفَس» تُشبه رندا كعدي أمي وأمّك وأمهاتنا جميعاً. نشاهدها ونتلمّس رقابنا. يتسلّل وجعها من الشاشة إلينا، وكأنها في كل مرّة تمرّر يدها على مكامن الألم في عنقها، تتخدّر أعناقنا لننشدّ أكثر وأكثر نحو تلك الشاشة المسحورة بالأداء، والتي تحوّلت فجأة إلى مطبخ أحاسيس ومصنع ضحكات وابتسامات وحنيّة برائحة قهوة أمهاتنا الصباحية.

نشاهد «الست بريجيت» ونصارع للّحاق بديناميكية حركتها وإيقاع كلماتها وطول أسئلتها التي لا تنتهي، فنصل معها «لآخر نفس» محاولين أن نلتقط أنفاسنا لنسألها أين ذهبَت رندا كعدي؟ وماذا فعلتِ بعشرات الأمهات اللواتي لعبتِ أدوارهنّ في أكثر من 120 مسلسلاً طوال 30 عاماً، ولا نفلح.

لا تذكّرنا بريجيت بأيّ من تلك الأمهات رغم أنهنّ أكسَبن الممثلة المعروفة لقب ماما رندا بامتياز. صحيح أنّ رندا كعدي تميّزت بدور الأم، ولكنّ إبداعها يكمن في أنها لم تقدّم الأم بشخصيّة أحادية التوجّه أو بنمطية واضحة المعالم. بعض الممثلين ينجح في شخصية فنراه يقدّمها بتنوّعات طفيفة في سلسلة أعمال، أمّا رندة كعدي فتنجح بلا شخصية واحدة يمكن تعميمها على كل أدوارها، وإنما بتفاصيل صغيرة تجعل لكل امراة تلعب دورها، كينونةً خاصة في عيونها وحركتها وصوتها وصمتها وكل ما فيها، لنتماثل معها فنعشقها أو نكرهها او نحتار في أمرنا منها.

ومع شخصية «بريجيت» وبنَصّ كارين رزق الله ورؤية أسد فولادكار، تمسك رندا كعدي بيدنا لتأخذنا في كَزدورة عفوية فيها الكثير من الكوميديا الممزوجة بالنوستالجيا إلى مواقف نعود فيها أطفالاً من جديد، فنقف أمام أمهاتنا في حيرة بين انزعاجنا من فرط الحماية وتوقنا إلى كمشة من ذلك الحنان، لنكتشف انها كما نساء كثيرات في مجتمعنا تهرب من وحدتها الخانقة وسنوات عمرها التي صرفتها «كاش» ومن دون حساب في بنك الأمومة، إلى التعويض عن الفراغ بالانشغال بهموم الاولاد وأولاد الأولاد، ولو على حساب وجع العنق والظهر أو حتى وجع القلب…

وفي مقابل «بريجيت» المضحكة-المبكية، نجد أنفسنا في مسلسل «أدهم بيك» (كتابة طارق سويد) أمام «تمينة»، وفي أحضان تمينة وفي دموع تمينة وفي إبداعات تمينة، التي أحيَت رندا كعدي من خلالها حنيّة أمهات القرن الماضي وجبروتهنّ، وأبدعت بلباسها الأسود الذي يكسوها من رأسها حتى أخمص قدميها في رسم قوس قزح من الشَعطات التمثيلية التي لا تبخل في شحنها بكلّ ما أوتيت من قدرات تمثيلية فريدة.

ممثلات بوتوكس وممثلات تصفيف شعر وماكياج وممثلات جمال وتجميل ومجاملات، جميعهنّ من جهة، وممثلة إسمها رندة كعدي قادرة بمكنسة قشّ قديمة أن تصنع مشهداً حقيقياً يترجم عمق الإنغماس في الدور ومنحه طاقة لا يمكن لأيّ عوامل خارجية أن تصنعه، وإنما يعتمد بلا منيّة من أحد على الطاقة الداخلية التي لا تبخل هي في رشّها على كلّ مشهد تظهر فيه في «أدهم بيك».

في مسلسلاتنا كثير من القصور والفيلات والسيارات، وكثير من الفساتين والمقاطع التلفزيونية المفخّمة، و«تمينة» تجلس داخل كادر حقير تحوّله بنظرة واحدة وبتعبير من يديها أو حركتها إلى درس في التمثيل… تجلس «تمينة» على مصطبة بيت متواضع أو في غرفة المونة أو تحت شبّاك مخلّع المفاصل، وتأخذ المُشاهِد الغارق في الأداء إلى مملكة من الإحساس الحقيقي الذي يحوّل تقطيع المشاهد إلى صفعات متتالية على وجهه، فينسى بعض الهفوات في الإخراج والأزياء ولا يتلفّت إلى الأداء المتفاوت لممثلين آخرين خوفاً من أن يفوّت متعة مشهد واحد تطلّ فيه «تمينة».

وفي «وين كنتي» (كتابة كلوديا مرشليان) أمّ جديدة تضاف إلى عشرات الامهات، أمّ تخنقنا مع كل تنهيدة وكل نظرة حائرة تبحث عن مصير ابنها خلف البحار وكل رعشة من جسمها تحمل آلاف الأسئلة.

ومثل أحزمة الأمان في السيارات والقطارات والطائرات التي تسمّرنا في كراسينا للمحافظة على سلامتنا الشخصية، كذلك أداء رندة كعدي يثبّتنا في كنباتنا خوفاً على حسّنا الفنّي وإغناءً للدراما اللبنانية التي لا خوف عليها طالما تمتلك ممثلات حقيقيات ومبدعات مثل رندة كعدي، ممثلات يَصنعن الدور ولا يسمحن للشخصية أن تصنعهنّ.