كتب غسان سعود في صحيفة “الأخبار”:
من يمكنه استغلال موقعه أكثر كمرشح للانتخابات النيابية: رئيس المجلس البلدي أم الوزير؟ ليس وزير الداخلية فحسب، بل وزراء التربية والاتصالات والصحة والطاقة والدفاع وغيرهم. بعضهم يفعلها منذ سنوات والبعض الآخر يمكنه تحويل مكتبه في الوزارة اليوم أو غداً إلى مقر لماكينته الانتخابية. هؤلاء يوزعون الرخص المختلفة ويجرون المناقلات ويوزعون المساعدات ويفعلون يومياً كل ما يصنف في خانة استغلال السلطة لمآرب انتخابية.
لا يحل الوزير سيزار أبو خليل أول في استطلاعات الرأي في عاليه لأنه محاضر بارع في الجيوبوليتيك، بل لأنه استفاد من موقعه لسنوات كمستشار لوزراء الطاقة السابقين من أجل تأمين آلاف (لا مئات) الخدمات لأهالي عاليه، وهو لا يخفي ذلك أو ينكره أو يجد فيه أي عيب. لم يُعيَّن محمد كبارة وزيراً للعمل لأنه نصير العمال والعاملات الأجنبيات، بل لأن الوضع الانتخابي لتيار المستقبل في طرابلس يتطلب توزير مرشح لا يحول حائل دون استغلاله السلطة واستخدامها لتعويم فريقه السياسي.
قبل ذلك، هل عُيِّن النائب علاء الدين ترو وزيراً لأسباب فكرية بحت أم لأن الماكينة الجنبلاطية في الإقليم تحتاج إلى فائض من استغلال السلطة؟ ومع هذا ــ وهذا لا يتجاوز 0.1 في المئة من أمثلة استغلال السلطة ــ قرر المشرعون التصدي لاحتمال أن يستغل بعض المرشحين إلى الانتخابات النيابية مواقعهم؛ فماذا فعلوا؟ منعوا رؤساء المجالس البلدية من الترشح إلى الانتخابات النيابية ما لم يستقيلوا قبل عامين. ولم يلبثوا أن عدّلوا القانون لمرة واحدة فقط من أجل السماح لرؤساء المجالس البلدية بالاستقالة من مواقعهم هذه المرة خلال مهلة شهر واحد، أي قبل عشرة أشهر من موعد الانتخابات التي يحتمل تأجيلها طبعاً. وعليه يمكن وزير الداخلية أن يترشح إلى الانتخابات ويذهب إلى مركز الاقتراع يوم الانتخابات مع مئات المرافقين ويتدافع رؤساء الأقلام والمسؤولون الأمنيون لأداء التحية له رغم أنه مجرد مرشح إلى الانتخابات، فيما لا يمكن رئيس إحدى البلديات في المتن أو المنية أو عكار أو بعلبك أن يترشح بكل بساطة لأن موقعه كرئيس بلدية يعطيه أفضلية على سائر المرشحين. مرة أخرى: رئاسة البلدية تعطي الأفضلية لمرشح على آخر، لكن الوزارات والإدارات العامة والمواقع الأمنية والقضائية والإعلامية وغيرها لا تعطي أيّ أفضلية لمرشح على آخر. هكذا أفتى الوزير جبران باسيل.
عشية إقرار النظام الداخلي للتيار الوطني الحر وتحديد موعد للانتخابات، درس الفريق المقرّب من باسيل الأرض العونية جيداً، وخلصوا إلى فتوى تحرم غير الجامعيين من تولي أيّ مسؤولية في التيار الوطني الحر، رغم أن أكثر من 13 ألفاً من الخمسة عشر ألفاً الذين كانوا يومها يحملون بطاقة حزبية لا يملكون شهادة جامعية، لأن غالبية مناصري التيار كانوا ولا يزالون من العسكريين المتقاعدين. وهكذا قطع باسيل ثلثي الطريق إلى رئاسة التيار وضمان فوز المقرّبين منه في غالبية المواقع بمجرد إقرار النظام الداخلي. واليوم تكرر الأمر نفسه: خشية بعض المرشحين العونيين على مقاعدهم دفعتهم باتجاه تشريع «غريب عجيب» لا يقيد حرية الترشح لأحد باستثناء رؤساء المجالس البلدية. في تركيا وأوروبا والولايات المتحدة وعدة دول أخرى غالباً ما تكون المجالس البلدية ممراً شبه إلزامي للنواب المستقبليين والوزراء ورؤساء الجمهورية يتدربون فيه على العمل العام والتعاطي مع السلطتين التنفيذية والتشريعية وإدارة المال العام وغيره. أما في لبنان، فقد قرر المشرعون الانصياع لرغبة باسيل بعدم إفساح المجال لرؤساء المجالس البلدية ليطمحوا بما هو أكثر من رئاسة البلدية، فيبذلوا جهداً إضافياً لينجحوا في مهماتهم: أنت رئيس بلدية، إذاً هذا أعلى السلم بالنسبة إليك، استرح ومدّ قدميك، علماً بأن المشرّع العوني حرص على اعتبار رئيس البلدية المستقيل من رئاسة البلدية من أجل الترشح للانتخابات النيابية فاقداً لعضويته في المجلس البلدي، وهي إضافة جنونية طبعاً، ولا يمكن فهمها إلا في سياق الرغبة الباسيلية في التخلص من رؤساء المجالس البلدية الأقوياء، حتى في حال خسر هؤلاء في النيابة لا يستطيعون العودة إلى البلدية. أما المستهدفون مباشرة من هذا العقاب الانتقائي فأربعة أساسيون: أوّلهم رئيس بلدية جبيل زياد حواط الذي أكد لـ«الأخبار» ثقته «المطلقة بقدرة مجلسه البلديّ على إكمال المسيرة من دونه» من جهة، و«إيماني بالناخبين» من جهة أخرى. وهو ما سيدفعه إلى تقديم استقالته خلال مهلة الشهر ليتفرغ بالكامل لإعداد ماكينته الانتخابية. وهو لم يحسم هوية لائحته، وكل ما يحكى عن تحالفه الحتمي مع النائب السابق فارس سعيد مجرد ترجيحات، فأولويته، سواء في كسروان أو جبيل، هي التفاهم مع ما يُسمى «المجتمع المدني». وهو على علاقة جيدة مع جميع الأفرقاء، بما في ذلك المردة والكتائب والقوات. ثانيهم رئيس اتحاد بلديات جبيل فادي مرتينوس الذي لم يحسم قرار استقالته بعد في انتظار المزيد من التشاور، وهو بات يميل أكثر إلى عدم الترشح، لكن احتمال ترشحه كان حاضراً جداً على طاولة قرار العونيين بمنع رؤساء المجالس البلدية من الترشح ما لم يستقيلوا خلال مهلة شهر. فرئيس بلدية قرطبا قادر على جمع العدد الأكبر من رؤساء بلديات وفعاليات جرد جبيل وتكوين موجة تضامن أكثر جدية بكثير من التصويت السياسيّ حصراً لابن بلدته النائب السابق فارس سعيد. ورغم أن الخرق المحتمل للائحة العونية في جبيل يقتصر على مقعد مارونيّ واحد، فإن مرتينوس وحواط كانا سيمثلان ثنائياً قوياً. الثالث هو رئيس بلدية الشياح إدمون غاريوس الذي كان رأس حربة اللائحة المناوئة للتيار عام 2009، وهو لا يقولها صراحة اليوم، لكنّ أكثرية المتابعين يقولون إن استقالته حتمية، رغم أن بلدية كبلدية الشياح أو الحدت أهم بما لا يُقاس من المقعد النيابي، إنمائياً و«بالوجاهة».
وفي بعبدا أيضاً هناك رئيس بلدية الشبانية كريم سركيس، ابن شقيق الرئيس الياس سركيس، وهو الرئيس السابق (ونائب الرئيس الحالي) لاتحاد بلديات المتن الأعلى الذي يضم ثلاثين بلدية. وهي المنطقة التي يعاني التيار الوطني الحر من فراغ سياسي رهيب فيها، لأن غالبية نوابه ومسؤوليه في بعبدا من الساحل. وينتظر سركيس تقديم عشرة نواب طعناً في قانون الانتخاب لإسقاط المهلة المخصّصة لرؤساء المجالس البلدية، فتتم مساواتهم بالمحافظين والمديرين العامين لناحية استقالتهم قبل ستة أشهر فقط من موعد الانتخابات.
والواضح هنا أن حواط يعلم أنه سيكون رأس حربة اللائحة المناوئة للتيار، وفوزه شبه مضمون. أما سركيس فلا يعلم شيئاً عن اللائحة المناوئة للتيار في بعبدا، ويخشى أن يخسر البلدية من دون أن يربح النيابة، علماً بأن اختراق اللائحة العونية في بعبدا بمرشح ماروني واحد سيكون من نصيب غاريوس في هذه الحالة لا سركيس. والجدير ذكره أن القوات اللبنانية لديها مرشحان مارونيان في هذه الدائرة التي تتمثل بثلاثة مقاعد مارونية ومقعدين شيعيين ومقعد درزي. وفي حال عدم استقالة غاريوس وسركيس وترشحهما، فإن ذلك يعني أن لائحة القوات ستكون اللائحة الرئيسية في مواجهة لائحة التيار، واحتمال الخرق القواتي يتقدم كل الاحتمالات الأخرى. ولا بدّ هنا من القول إن باسيل خيط التشريع المتعلق بإقصاء رؤساء المجالس البلدية، لكن المستفيد الرئيسي منه ليس باسيل بل القوات اللبنانية، فالتيار سيخسر مقعداً في جبيل وآخر في بعبدا، لكن منع رؤساء المجالس البلدية من الترشح يؤدي إلى فوز مرشحي القوات أو المقرّبين منها (فارس سعيد مثلاً) بهذه المقاعد لا أحد آخر. وفي بعبدا ينتظر رئيس بلدية بزبدين، بيار بعقليني، قرار رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية الذي سيعلن عنه قبل 48 ساعة فقط من انتهاء المهلة، لكنه يرجّح أن يكون: الاستقالة لخوض الاستحقاق النيابي. وبعيداً عن جبل لبنان، يعلم الوزير باسيل أن علاقته برئيس بلدية البترون مرسلينو الحرك جيدة جداً اليوم، لكن باسيل يستصعب الوثوق بخياله، ولا يمكنه أن يبقي نفسه عرضة للشك الدائم في أن صديق النائب سليمان فرنجية قد يستيقظ يوماً مع طموح إضافي فيدعوه إلى مبارزة انتخابية حبيّة في البترون التي يعتبر باسيل أنه أقفل مدينتها ولم يعد يوجد أي مزاحمة جدية له في الساحل يمكن أن توجع رأسه أو تلهيه عن الوسط وتنورين.
وفي النتيجة، ينتظر أن ينهي أحد الوزراء السابقين ترتيب الطعن في البند الباسيليّ اليوم أو غداً ويرفقه بتوقيع 10 نواب ليطلبوا من المجلس الدستوري إلغاء المادة المجحفة بحق رؤساء البلديات. لكن سواء تمت مساواة رؤساء المجالس البلدية مع من تشملهم مهلة الستة أشهر أو بقيت مهلة الشهر الواحد على حالها، يتوقع أن تكون الخلاصة هي نفسها: رؤساء المجالس البلدية الواثقون بأنفسهم ويعرفون ما يريدون سيتقدمون باستقالاتهم ويبدأون الإعداد للانتخابات النيابية منذ الآن. أما المترددون اليوم، فسيكونون متردّدين أيضاً بعد خمسة أشهر.