كتب وسام أبو حرفوش في صحيفة “الراي” الكويتية:
ثمة سؤالٌ يتردّد في بيروت كما في أيّ مكانٍ آخر: ماذ بعد «داعش»؟ فـ «دولة البغدادي» (2014 – 2017) التي فاجأتْ العالم في صعودِها الصاروخي قبل ثلاثة أعوام وقلبتْ الشرق الأوسط رأساً على عقب، تضع، مع سقوطها المدوّي، العالمَ بأسْره أمام تحدياتٍ لا تقلّ مصيريةً عن تلك التي ترتّبتْ على انفلاش «الدولة المُرْعِبَة» وزوالها، وترتبط بطبيعة النظام الإقليمي الذي من المرجّح أن يُولَد من المخاض الهائل الذي لم تعرفه المنطقة منذ نحو قرنٍ من الزمن.
فبيروت كسواها من العواصم القلِقة، تنتظر اللقاء المقرَّر انعقاده هذا الأسبوع بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير على هامش قمة العشرين في هامبورغ الألمانية (بين 7 و 8 يوليو الجاري). فعلى الطاولة، تَحضر خرائطُ الإقليمِ المُمَزَّقَة، بين «القيصر المنتشي» بـ «فتوحاتٍ» في الشرق الأوسط لم يَعرفها الكرملين حتى في عزّ الحرب الباردة، وبين «الكاوبوي» العائدِ في الوقت المُمَدَّد قبل أن «تنتهي اللعبة»، بعدما كان سلَفُه (باراك أوباما) اختار الانسحاب الى مقاعد المتفرّجين.
والأكثرُ إثارة في قمة ترامب – بوتين ومُحاكاتِها لمرحلةِ ما بعد «داعش» وما تنطوي عليه من أسئلةٍ حيال المنطقة ومستقبلها، أن ثالثهما سيكون طيْف «الثعلب العجوز» هنري كيسنجر، الذي كان استدعاه الرئيس الأميركي بعد انتخابه واستقبلَه الرئيس الروسي أخيراً. والأهمّ أن الصديقيْن اللدوديْن اللذين قيل الكثير عن «علاقاتهما الإلكترونية»، أمامهما على الطاولة نظامٌ إقليمي مُتَهالِكٌ كان هنْدسه كيسنجر وصَمَدَ لنحو أربعة عقود أعقبتْ حرب العام 1973.
لبنان، الذي خَبِر كيسنجر وسياسته الخطوة – خطوة منذ تَقاسُم الأدوار فيه بين سورية واسرائيل، يولي لقاء ترامب – بوتين أهمّيةً لإدْراكه أن مرحلةً جديدةً من تَقاسُم النفوذ تحوم فوق رأسه بعدما ترنّحتْ «ترتيباتُ كيسنجر» في المنطقة، وهو العائد إلى دائرة الضوء بعدما كان لفترةٍ طويلةٍ صانِع السياسة الخارجية للولايات المتّحدة و«مُرْشِدها الأعلى» منذ الخروج من المستنقع الفيتنامي أيام ريتشارد نيكسون، وحتى ما قبل السقوط في الشرق الأوسط مع «عقيدة أوباما».
ولم يكن عابِراً أن يستدعي ترامب وهو في رحلة العودة إلى الشرق الأوسط ومعه «التوماهوك» و«المارينز»، هنري كيسنجر إلى البيت الأبيض بعيد استقباله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وأن يستقبل بوتين، المُمْسِك بمفاتيح اللعبة في سورية، كيسنجر عيْنه قبل لقائه المرتقب مع الرئيس الأميركي في هامبورغ.
فهذا الديبلوماسي العتيق (94 عاماً)، أكثر الخبراء معرفةً بشؤون الشرق الأوسط وشجونه، كان اعتَبَرَ أن التدخُّل الروسي في سورية أفضى إلى تَخبُّط بنيةٍ جيوبوليتيكيةٍ عمرها أربعة عقود، وشكّل المظهر الأخير في تفكُّك الدور الأميركي في استقرار الشرق الأوسط، قبل أن يخلص الى القول إن الولايات المتّحدة تحتاج إلى استراتيجية جديدة تعيد تحديد أولوياتها.
فمع وداعِ نظامٍ إقليمي لم ينتهِ بعد وبروزِ ملامحِ نظامٍ بديل لم تتّضح طبيعته، تتحوّل بيروت كسواها من العواصم مرتعاً لأسئلةٍ من نوع: سَقَطَ «داعش» فماذا عن بشار الأسد؟ أيّ لبنان سيكون في ضوء ترسيمِ مناطقِ النفوذ في سورية؟ ماذا عن صعودِ وخفوتِ الكلام عن حربٍ وشيكةٍ يكون مسْرحها لبنان؟ ما مغزى تلويح «حزب الله» باستقدام مئات الآلاف من الميليشيات الموالية لإيران الى لبنان؟ ولماذا معركة جرود عرسال الآن؟ وأيّ مصيرٍ لـ «بوليصة التأمين» الإقليمية – الدولية لاستقرار لبنان السياسي والأمني؟
هذه الأسئلة التي تشكّل حالة من «ربْط النزاع» بين لبنان واتجاهات الريح في المنطقة، تَحضر بقوّةٍ في بيروت من خلْف ظَهْر «الهذيان السياسي» الداخلي الذي يُغرِق البلاد في معارك مبكّرة على الطريقِ إلى انتخاباتٍ نيابية مقرَّرة في مايو من العام 2018.
ورغم «طوفان الكلام» عن تلك الانتخابات وتَحالُفاتها والتحوّلات التي قد تَنجم عنها، يتّجه لبنان نحو اختباراتٍ ذات طبيعة إقليمية، لعلّ الأبرز فيها:
* المرحلة الجديدة في المنطقة بعد أفولِ «داعش». فالمعادلة الدولية – الإقليمية التي كانت تعطي الأولوية للحرب على «دولة البغدادي»، ستتّجه نحو أولوياتٍ أخرى وسط أسئلةٍ عن أيّ مصيرٍ سيكون لسورية في ضوء الـ «ميني» حرب عالمية على أراضيها.
* ماذا عن تَعاظُم المواجهة بين الولايات المتّحدة ودول الخليج من جهة وبين إيران وأذرعها في المنطقة من جهة أخرى، وخصوصاً في ضوء التموْضعات الجارية في الميْدان السوري وعلى خط طهران – بغداد – دمشق – بيروت؟
* أيّ دورٍ سيكون لاسرائيل في لحظةِ الجلوس على الطاولة، وهي التي تُسَرِّع عمليةَ بناء الجدار مع لبنان وتُكثِر من إطلاق النار الديبلوماسية على قوة «اليونيفيل» المنتشرة على الخط الأزرق بين لبنان واسرائيل؟
وبيروت، التي لم تُسقِط من حسابها خطر حصول مواجهة بالواسطة بين إسرائيل ومعها الولايات المتّحدة من جهة وبين إيران من جهة أخرى، رأتْ في تهديدات «حزب الله» بلسان أمينه العام السيد حسن نصر الله باستيرادِ مئات الآلاف من مقاتلي الميليشيات الموالية لإيران مؤشراً إلى «تبادُل الرسائل» وبمكبّرات الصوت بين طهران وواشنطن على وهج التطورات في سورية، وهو الأمر الذي أغضب الداخل اللبناني ودفع رئيس الحكومة سعد الحريري الى الردّ حين قال خلال رعايته حفل تخرُّج جامعي «على كل حال، الانتخابات مقبلة واللبنانيون سيقولون بوضوح إذا كان هذا ما يريدونه، أن يستوردوا معرفةً ومهارات ويصدّروا حلولاً وخدمات ومنتجات، أو كما يهدّد البعض في هذه الأيام، أن يستورد حرساً ثورياً وميليشيات؟ في كل الأحوال، هذا كلام لا يعبّر عن موقف الدولة اللبنانية، والشعب اللبناني قادر على أن يحمي أرضه بنفسه من أي عدوان إسرائيلي، ولا يحتاج لأي قوى خارجية ولأيّ ميليشيات مهما كانت جنسيّتها».