كتب عماد مرمل في صحيفة “الديار”:
مع تداعي معاقل «داعش» في العراق وسوريا، برز خطر حدوث «هزات ارتدادية» لهذا الانهيار، من نوع تصاعد العمليات الارهابية في الساحات التي توجد فيها خلايا نائمة او ذئاب منفردة، وهذا ما حذر منه الرئيس ميشال عون وتتحسب له المؤسسة العسكرية والاجهزة الامنية التي لا تزال تحقق الانجاز تلو الآخر في معركتها ضد المجموعات التكفيرية.
وبهذا المعنى، فان التزامن بين العملية النوعية التي نفذها الجيش في بعض مخيمات عرسال، وتوقيف الارهابي الخطر خالد مسعد الملقب بـ«خالد السيد» في مخيم عين الحلوة، انما اعطى اشارة واضحة الى ان المنظومة الامنية والاستخباراتية للدولة اللبنانية هي في أعلى جهوزية لمواجهة المخاطر المحدقة، من دون ان يلغي ذلك كليا احتمال حصول خرق موضعي، في لحظة ما.
وقد حملت عملية توقيف مسعد (السيد) وتسليمه الى السلطة اللبنانية، العديد من الابعاد الهامة التي يمكن اختصارها بالآتي:
– ان الموقوف واحد من اخطر مهندسي المخطط الجهنمي الذي احبطته الاجهزة قبل فترة، وهو كان يتواصل مع قيادة «داعش» في الرقة وينسق مع الخلايا التنفيذية في الداخل اللبناني، وبالتالي فان إلقاء القبض عليه يشكل «قيمة امنية» قائمة بحد ذاتها، خصوصا انه يعرف الكثير من الخفايا، وهو على الارجح يختزن «كنز معلومات»، وفق تقدير العارفين.
– التمهيد لتوقيف المزيد من الارهابيين المتوارين في داخل المخيم، بعد نجاح تجربة التعاون اللبناني – الفلسطيني في قضية مسعد.
– توجيه رسالة الى كل من يهمه الامر في المخيم الفلسطيني الاكبر في لبنان بأن الوضع لم يعد سائبا كما في السابق، وان «عين الحلوة» ليس ملاذا آمنا للمطلوبين الذين لطالما افترضوا ان بامكانهم الاستفادة من تعدد المرجعيات والمربعات في هذا المخيم، للاحتماء من الملاحقة والهروب من العدالة. وعليه، فان ما حصل مع خالد مسعد يجب ان يكون عبرة لغيره وفق ما يؤكد مصدر قيادي في فصيل فلسطيني بارز.
– ترميم الثقة بين الدولة والفصائل الفلسطينية، بعدما تصدعت خلال المرحلة الماضية نتيجة شعور المسؤولين اللبنانيين بان تلك الفصائل ليست متعاونة بالقدر المطلوب، ولا تبدي ما يكفي من الجدية والحزم لضبط الفوضى في «عين الحلوة» وتسليم المطلوبين المعروفين بالاسم.
ولكن… كيف حصل توقيف خالد مسعد المعروف بخالد السيد، وما هي تفاصيل استدراجه الى «المصيدة»، ومن ثم تسليمه الى مخابرات الجيش والامن العام؟
«الديار» تنشر الرواية التفصيلية لهذه العملية، بناء على التفاصيل والوقائع التي استقتها من مصادر واسعة الاطلاع:
بعد الاعلان خلال الاسبوع الثاني من حزيران الماضي عن توقيف عدد من اليمنيين والفلسطينيين والسوريين المنتمين الى «داعش» والذين كانوا يستعدون لتنفيذ اعتداءات ضد مرافق حيوية واهداف متفرقة في العديد من المناطق، كشف المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم عن ان «الرأس المدبر» لهذا المخطط هو خالد السيد الموجود في مخيم عين الحلوة، مؤكدا الاصرار على اعتقاله.
في 12 حزيران الماضي، عُقد اجتماع في مقر الامن العام بين اللواء ابراهيم ووفد قيادي من حركة حماس برئاسة نائب رئيس مكتبها السياسي موسى او مرزوق. خلال هذا اللقاء بدا ابراهيم حازما وحاسما في مقاربة قضية خالد مسعد واضعا مطلب تسليمه الى الدولة اللبنانية في طليعة بنود البحث مع الوفد الذي سمع كلاما واضحا وقاطعا من مدير «الامن العام» مفاده ان هذه المسألة فائقة الحساسية ولن نقبل تجاوزها، وخالد السيد (خالد مسعد) خطر جدا، ويجب اعتقاله وتسليمه.
واضاف ابراهيم متوجها الى ضيوفه من «حماس»: لقد ثبت لنا من خلال الرصد والمتابعة ان هذا الشخص كان يخطط لتنفيذ تفجيرات ضخمة في لبنان بالتعاون مع مجموعة من الارهابيين الذين اوقفناهم، ونحن لدينا تسجيلات موثقة تثبت ذلك…
وعلمت «الديار» في هذا السياق ان محاولة استهداف مطار رفيق الحريري الدولي، كانت تعتمد على مخيلة اجرامية جهنمية، إذ قضت الخطة بإشعال حرائق متعمدة في محيط المطار، بغية تشويش الرؤية ومن ثم عرقلة حركة الطائرات التي ستُجبر نتيجة الدخان المتصاعد على تغيير مسارها وارجاء هبوطها، ما يؤدي الى زيادة الازدحام في صالة الانتظار التي يُفترض، تبعا للسيناريو المرسوم، ان تكتظ بأهالي المسافرين المتأخرين في الوصول. وعندئذ يقتحم الانغماسيون المكان ويفجرون انفسهم بالمواطنين المنتظرين، لايقاع اكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية.
وإزاء هول الحقائق المثبتة وخطورتها، أكد وفد «حماس» لابراهيم انه ليس مقبولا ان يتحول «عين الحلوة» الى مأوى لارهابي كبير من هذا النوع، مشددا على ان حماية الاستقرار اللبناني هي من اولوياتنا ونحن مستعدون للتعاون حتى اقصى الحدود من اجل تسليم خالد مسعد، على قاعدة ان امن لبنان هو من امن المخيمات والعكس صحيح.
وجرى الاتفاق على استمرار التواصل اليومي بين الجانبين لتنسيق الجهود ومتابعة التطورات، وذلك من خلال ضابط في «الامن العام» ينتدبه ابراهيم، ومسؤول في «حماس» تنتدبه قيادة الحركة، وهكذا كان.
وعلى الفور، باشرت «حماس» في تحركها الذي استمر طوال 18 يوما لتحديد مكان وجود مسعد (السيد)، وذلك ضمن ثلاثة مسارات في آن واحد: المسار الاول يمر عبر عصبة الانصار، والثاني والثالث يمران عبر جهتين فلسطينيتين أخريين.
وفي الوقت ذاته، كانت الخطوط مفتوحة بين مسؤولي «حماس» في بيروت والقيادة العليا للحركة في غزة والدوحة التي واكبت كل مراحل هذا المخاض الامني وسط قرار متخذ بوجوب انهاء ملف مسعد وعدم السماح بتكرار مأساة «نهر البارد» في «عين الحلوة».
مع مرور الايام، بدا ان مسار التعاون مع عصبة الانصار يحقق تقدما. صحيح ان «العصبة» شعرت بداية بالحرج في المساهمة في توقيف مسعد وتسليمه انطلاقا من اعتبارات دينية، لكن «حماس» اقنعتها بان مصلحة الاسلام ومخيم عين الحلوة تقضي بالتخلص من عبء هذا الرجل المتورط في مسائل لا يمكن احتمالها.
نهار الجمعة الماضي، اتصل ابراهيم بقيادة «حماس» في بيروت، وأبلغها بأن قرابة 18 يوما قد مضت على اللقاء الذي جرى في مكتبه، ولم يستجد شيىء بعد، وسأل: اين اصبحتم؟ فأتاه الرد: الجهود حثيثة ومتواصلة، والامر يحتاج الى بعض الصبر.
لاحقا، تلاحقت الاحداث وحصلت المفاجأة. مساء اليوم ذاته، اي الجمعة، تم بعد رصد دقيق تحديد مكان وجود خالد مسعد (خالد السيد) في «عين الحلوة» بالتنسيق بين «العصبة» و«حماس»، ثم جرى استدراجه قرابة منتصف الليل الى مكان آمن ومُحكم لا يستطيع الافلات منه، بعدما قيل له ان الهدف من «دعوته» هو الاستفسار منه حول بعض الامور، فيما كان قيادي مركزي من «حماس» ينتقل على عجل الى المخيم لمواكبة التطورات عن قرب.
وخلال التحقيق الاولي مع مسعد في المخيم قبل تسليمه الى الاجهزة اللبنانية اعترف بأنه ينتمي الى «داعش»، لكنه حاول ان ينكر علاقته بمخطط التفجيرات.
وعند تسرب نبأ اعتقاله الى بعض انصاره والمقربين منه، وكان لا يزال في «عين الحلوة»، مورست ضغوط على «حماس» و«العصبة» لمنع تسليمه الى الدولة اللبنانية، بل ان هناك من اعتبر ان قتله افضل في مثل هذه الحالة، لان تسليمه قد يتحول الى سابقة تهدد مطلوبين آخرين، ولان وقوعه في قبضة الامن اللبناني سيؤدي الى كشف الكثير من المعلومات الحساسة.
لكن «حماس» و«العصبة» لم ترضخا للضغوط وصممتا على استكمال اجراءات تسليم مسعد، انطلاقا من ان الدولة اللبنانية هي المعنية بأن تحاكمه لتبيان الحقيقة. وبناء على هذا القرار النهائي، باشر مسؤولو التنظيمين فجر السبت بإجراء اتصالات مع ضباط في مخابرات الجيش والامن العام لاتمام المهمة، إلا ان بعضهم كان لا يزال نائما في تلك الساعة المتأخرة من الليل.
وفي اعقاب محاولات متلاحقة، تسنى الاتصال بأحد مساعدي ابراهيم وجرى ابلاغه بالخبر السار، وما هي الا لحظات حتى بات ابراهيم نفسه على السمع، فيما كان محدثه الفلسطيني على الخط الآخر يستخدم «الشيفرة» في نقل البشرى اليه، من باب التحسب الامني: «حضرة اللواء ابراهيم، «العصفور» وقع…»
انفرجت اسارير ابراهيم، وتنفس الصعداء، وهو الذي سبق له ان أخذ على عاتقه سوق مسعد الى العدالة اللبنانية، حين كان الكثيرون يعتقدون ان توقيفه في هذه الظروف هو امر صعب.
عند السادسة صباح السبت الماضي وصل وفد مشترك من المخابرات والامن العام ضم عميدين، الى حاجز الحسبة على مدخل «عين الحلوة»، حيث تسلم مسعد، علما ان مجمل العملية من لحظة الاستدراج الى لحظة التسليم بقيت طي الكتمان الى حد كبير، حتى لا يجري افشالها، بحيث ان تفاصيلها حُجبت عن اغلبية الفصائل وكذلك عن جزء من قيادة «حماس».
مع انجاز العملية بنجاح، اتصل رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» اسماعيل هنية بقيادة الحركة في بيروت مهنئا بما تحقق، كما اتصل ابو مرزوق باللواء ابراهيم.
وقالت اوساط فلسطينية بارزة لـ «الديار» إنه من غير المسموح لـ«داعش» وغيره استخدام مخيم عين الحلوة كمنطلق للعمليات التخريبية ضد الداخل اللبناني، مشددة على ان بوصلة المخيمات هي فلسطين وعدونا هو اسرائيل، ولن ننجر الى المستنقعات الطائفية والمذهبية.
وتشير الاوساط الى ان سيناريو «نهر البارد» لن يتكرر، لافتة الانتباه الى ان ما حصل أنقذ «عين الحلوة» من خطر كبير كما انقذ لبنان من تهديد داهم، ومعتبرة ان خالد مسعد اخطر بكثير من عماد ياسين الذي اعتقل في عملية امنية لبنانية مباغتة في قلب المخيم قبل فترة.
وترى الاوساط ذاتها ان تسليم مسعد يخدم الاستقرار الداخلي، مشددة على ان لبنان القوي والمعافى يشكل مصلحة للقضية الفلسطينية.
وتدعو الاوساط السلطة اللبنانية الى ملاقاة التجاوب الفلسطيني في تسليم مسعد من خلال التخفيف من المعاناة الاجتماعية للاجئين في المخيمات واحترام حقوقهم الانسانية، آملة في ان يشمل قانون العفو المرتقب عددا من الفلسطينيين.