كتبت كاتيا توا في “المستقبل”:
روايات كثيرة حيكت بشأن قضية مقتل الطفلة سيلين ركان، عن “قطب مخفّية” ومعلومات متشابكة وأخبار حالت دون معرفة الحقيقة في البدء، خصوصاً بعدما كشف والدها المدعي ياسر ركان إثر وفاة طفلته التي كانت تبلغ من العمر أربعة أعوام، أن اللقاح تسبب بمقتلها، ليعود بعد مراجعته كاميرات المراقبة المنتشرة في أرجاء المنزل في محلة سليم سلام في الثاني من تشرين الأول من العام 2014، ويتهم العاملة الأثيوبية لديه بيزوايهو نيغا اجيباش المعروفة بـ”بوزاي” بقتلها خنقاً وسرقة أغراض من المنزل.
منذ تلك الحادثة، سلك التحقيق مساره القضائي، ليصل الملف في النهاية الى محكمة الجنايات في بيروت، مسارٌ تكشفت خلاله معالم الجريمة أمام المحكمة التي حكمت أمس بالإجماع في حكم أصدرته برئاسة القاضي هاني عبد المنعم الحجار على “بوزاي” بسجنها أشغالاً شاقة مؤبدة وتخفيض العقوبة الى السجن عشرين عاماً أشغالاً شاقة بعد منحها أسباباً مخففة، وإلزامها بأن تدفع للمدعي الوالد مبلغ 150 مليون ليرة بمثابة تعويضات شخصية.
إقرارات أربعة، أدلت بها المتهمة باعترافها حول ارتكابها الجريمة، لتعود وتنفي ذلك أمام المحكمة وتتهم الوالد “المستر” بالتحرش بها وبزواجه من امرأة أخرى، وتهديده لها وهي داخل السجن، إتهامات رأت المحكمة أنها تفتقر الى الجدية والثبوت، مفصّلة في حكمها التناقضات التي وقعت فيها المتهمة أمامها حيث أنكرت ارتكاب الجريمة، معتبرة أن هدف المتهمة من ذلك هو محاولة التملص من تبعة فعلتها.
فنّدت المحكمة في حكمها الذي يقع في 18 صفحة “فولسكاب” جميع الإفادات التي أدلت بها المتهمة في كافة مراحل التحقيق معها، وكذلك إفادات شهود معظمهم من الأطباء، مركزّة على ما بيّنته كاميرات المراقبة داخل المنزل حيث عمدت المتهمة الى قطع وإعادة التيار الكهربائي لمرتين، الأولى ما بين الساعة 50: 57:11 والساعة 12:27:47 وهي الفترة التي حصلت فيها الجريمة، والثانية ما بين الساعة 51:55:12 و33: 00:13.كما فنّد الحكم ادلاءات المتهمة أمام المحكمة لتنتهي الى تكوين قناعة يقينية أن بوزاي هي التي أقدمت على قتل الطفلة سيلين.
يستعرض الحكم في البدء وقائع القضية واعترافات المتهمة في معرض التحقيق الأولي وأمام قاضي التحقيق الأول حيث اعترفت بقتل سيلين من خلال رمي نفسها فوقها بوضعية الركوب ووضع يدها اليسرى على فمها وأنفها وذلك بعد مشاهدتها صورة والدتها وتذكرها لحادثة الاغتصاب التي تعرضت لها في الصغر، وأنها فقدت وعيها وعندما استعادته بعد خنق الطفلة كانت الأخيرة لا تزال ساخنة فقامت بوضعها في سريرها حيث أخذت تبرد تدريجياً، وأنها تراجعت عن نية الانتحار لأن هناك احتمالاً أن تعيش سيلين التي كانت تقول لها بعد مسح وجهها للطفلة بقطعة قماش: “ممنوع تموتي بسببي أنا وما فيني عيش بلاكي سامحيني حبيبتي”، وذلك وفق ما أفادت المتهمة في إحدى إفاداتها الأولية.
ويشير الحكم في حيثياته، الى أنه “من الثابت في الوقائع وبالأدلة لاسيما في ضوء إقرار المتهمة الصريح في التحقيقات الأولية والاستنطاقية ومدلول أقوالها خلال المحاكمة وعلى ضوء ما بينته كاميرات المراقبة داخل منزل المدعي وعلى ضوء إفادات الشهود والمستندات المضمومة الى الملف، أن المتهمة التي تعمل كعاملة في الخدمة المنزلية في منزل المدعي أقدمت على
قتل الطفة سيلين من خلال الجلوس عليها وهي ممددة أرضاً على بطنها وخنقها بيدها”.
ويضيف الحكم: “وحيث أنه لا يمكن التوقف عند إنكار المتهمة خلال المحاكمة على ضوء مجمل المعطيات التي توافرت في الملف والتي كانت كافية لتكوين قناعة يقينية لدى المحكمة أن المتهمة هي من أقدم على قتل الطفلة ولا سيما على ضوء إقراراتها الأربعة بارتكابها ما أسند إليها في فترات زمنية متباعدة كان أولها في التاسع من تشرين الأول العام 2014 وآخرها في 30 ايلول من العام نفسه، ما من شأنه تمكين المتهمة من مراجعة نفسها وتمكينها من تجاوز أي ضغوط قد تكون تعرضت لها وفق ما تدعي خصوصاً أن استجوابها الأخير حصل بحضور وكيلتها وإفاداتها في التحقيق الأولي جرت بحضور مندوب من القنصلية الأثيوبية تولى أعمال الترجمة، كما أن إحدى إفاداتها حصلت بحضور السكرتير الثاني في سفارة بلادها ما من شأنه أن يؤمن لها كافة الضمانات للإدلاء بإفادتها بملء إرادتها وللشكوى من أي شيء قد يشوّش على تلك الإرادة”.
كما لفتت حيثيات الحكم الى أفادة احد الشهود بأن المتهمة أقرّت أمامه بقتل سيلين بعد مواجهتها بما بينته كاميرات المراقبة، فضلاً عما أفاد به ناطور البناء لجهة تصرف المتهمة بشكل طبيعي ومن دون توتر عند إنزالها الطفلة الى أسفل البناء.
ورأت المحكمة أن تذرع المتهمة في اعترافاتها بأن الحالة النفسية التي تمر بها عند مشاهدة صورة والدتها كانت هي الدافع الى الجريمة لا يبرر فعلتها بأي شكل من الأشكال، وإدلاؤها أمام المحكمة بأن اعترافاتها السابقة جاءت نتيجة الخوف لا يمكن التوقف عنده لعدم الثبوت ولجهة تكرار الاعتراف في فترات متباعدة. وتعتبر المحكمة أن إدلاء المتهمة بأنها فضلت الاعتراف بالجريمة على السماح لزوجة المدعي بمعرفة علاقته بامرأة أخرى أو أنها اعترفت بارتكابها الجريمة لحماية الزوجة بعد أن هددها المدعي بأن يحرم زوجته من أولادها، يفتقر الى الجدية والثبوت إذ لا يعقل أن تعترف المتهمة بجريمة قتل لم ترتكبها للأسباب المذكورة.
وعن ادلاءات المتهمة أمام المحكمة لنفي التهمة عنها، أنها اعترفت بالجريمة بعد أن أرسل اليها المدعي فتاة لبنانية تعاطت المخدرات للدخول الى مكان توقيفها وأعطتها حبة دواء قبل أن تدلي بإفادتها ونقلت اليها طلب المدعي وبأنه سيرسل المال الى شقيقها، رأت المحكمة ثبوت عدم صحتها بعد أن تبين من مراجعة فصيلة البسطة أن المتهمة أُحضرت الى الفصيلة وجرى استجوابها في اليوم التالي بعد أن كانت موجودة بين فتاتين من التابعية البنغالية. كما تبين من مراجعة مكتب حماية الآداب الذي نُقلت اليه المتهمة لاحقاً أنها لم توقف مع فتاة لبنانية مسند اليها تعاطي المخدرات، وقد تراجعت المتهمة عن أقوالها بعد مواجهتها بالواقع المذكور حيث أكدت أن أحداً لم يطلب منها قول شيء في فصيلة البسطة وزعمت هذه المرة أن الفتاة التي التقتها في مكتب حماية الآداب أخبرتها أن المدعي يهددها بقتل طفلتها إذا لم تعترف بارتكاب الجريمة. كما أن ما أدلت به المتهمة خلال المحاكمة بأن المدعي اتصل بالمنزل للسؤال عن زوجته، فلم يتبين بعد مراجعة حركة الاتصالات وجود اي اتصال من قبل المدعي في الفترة التي ذكرتها المتهمة.
وفي ما خصّ أقوال المتهمة لجهة ترجيحها أن تكون المرأة الأخرى التي تربطها علاقة بالمدعي هي من أقدمت على قتل الطفلة وادلائها تارة بأنها هُددت لإخبار زوجة المدعي بتلك العلاقة وتارة أخرى لعدم الاخبار عنها والادلاء بوجود طفلة أخرى للمدعي وبعثورها على صورتها على جثة سيلين، فقد اعتبرت المحكمة أنها تفتقر جميعها الى الجدية والثبوت ولم تتعزز بأي دليل يؤيدها ولا يمكن الركون اليها خصوصاً في ظل المعطيات الأخرى الثابتة وفي ظل تناقض هذه الأقوال لجهة التهديد ولجهة دخول أحد الى المنزل ولجهة أنها وجدت باب المنزل مفتوحاً.
وأكثر من ذلك، فإن ما أوردته المتهمة من أن الوضعية التي مثلتها خلال التحقيق تتعلق بكيفية قيامها بفحص نفَس الطفلة لا يمكن الركون اليه لمجافاته المنطق السليم لأن الصور المرفقة بالتحقيق تبيّن بشكل جلي وواضح جلوس المتهمة على بطن الطفلة وكتمها لنَفَسها بواسطة يدها. وبالإضافة الى ذلك فإن المتهمة لم تبرر بشكل مقنع وجدّي سبب قيامها بقطع التيار عن المنزل وبشكل خفي كما بينته كاميرات المراقبة خصوصاً في الفترة التي قتلت فيها الطفلة.
كما أن المتهمة – تضيف حيثيات الحكم – تناقضت أيضاً في أقوالها أمام المحكمة لجهة ادلائها بداية بأنه لم تنفعل عند إنزال الطفلة الى أسفل البناء لأن الأخيرة تكون دائماً مريضة ثم ادلائها لاحقاً عند سماع ناطور البناء بأنها كانت تبكي عند نزولها.
وفي ضوء ما بينته هذه الحيثيات لجهة التناقض وعدم الجدية وعدم الصحة في أقوال المتهمة أمام المحكمة، رأت المحكمة أنه لا يمكن التوقف عند ما أوردته أمامها وإنكارها ارتكاب الجريمة الذي من الواضح أن الهدف منه محاولة التملص من تبعة فعلتها.
وما تزعمه المتهمة بأن الطفلة كانت مريضة أو تعاني من مشاكل صحية هامة، فقد بقي بنظر المحكمة يفتقر الى الثبوت إذ إن السجلات الصحية
المضمومة الى الملف لم تبين مثل هذا الأمر، كما أن طبيب الطفلة نفى هذا الأمر وكذلك والدتها.
وحول ما أثير لجهة اللقاح، فإنه من الثابت، بحسب المحكمة، ووفقاً لما تضمنه المستند الصادر عن لجنة التحقيقات المهنية في نقابة الأطباء التي أجرت تحقيقاً مع الطبيب الذي أجرى اللقاح ومما ذكره الأخير في إفادتيه ومن أقوال طبيبين آخرين، فإن اللقاح المذكور ليس له أي علاقة بحادثة وفاة الطفلة وأن اللقاح في حال فساده فإنه لا ينتج عن أخذه انعكاسات صحية قد تؤدي الى الوفاة بل ينعدم تأثيره فقط، فضلاً عن أن اللقاح المذكور قد جرى الكشف عليه وتبين أن مصدره شرعي وصالح.
وناقشت المحكمة في حكمها مسألة عدم وجود علامات عنف على جسد الطفلة، ورأت أن ذلك لا يؤدي الى استبعاد وقوع الجريمة، إذ إنه من العودة الى إفادة أحد الأطباء أمام المحكمة فقد أدلى بأن خنق الطفلة وفقاً للوضعية التي مثلتها المتهمة خلال التحقيق ليس من شأنه بالضرورة أن يترك آثاراً على جسد الطفلة، كما أن إحدى الطبيبات التي عاينت الطفلة بعد وصولها الى مستشفى الزهراء، أشارت الى وجود ازرقاق على فمها وأن ذلك يشير علمياً وطبياً الى وجود نقص حاد في الأوكسيجين.
وردت المحكمة في حكمها على مرافعة وكيل المدعي المحامي بطرس وأكد لجهة توافر عنصر العمد أو ارتكاب الجرم للتهرب من جنحة أو جناية أو لإخفاء معالمهما، فاعتبرت بأنه “وإنْ كان يعود للمحكمة إعطاء الوصف القانوني الذي تراه منطبقاً على الوقائع الواردة في القرار الاتهامي بعد التثبت منها إلا أنه لا يعود لها بحث مدى توافر ظروف مشددة للجرم لم تتم الإشارة اليها في القرار الاتهامي، وفي مطلق الأحوال فإن الظرفين المذكورين لم يثبت توافرهما بشكل جازم”.
وأخيراً، أشارت المحكمة الى أنه من الثابت أن المتهمة أقدمت على سرقة بعض الأغراض من منزل مخدومها وقامت بتخبئتها داخل غرفتها ومنها حقيبة و”شال” و”فولار” وكف من الكاوتشوك وكيس يحتوي على أساور وخواتم وسلاسل ذهبية وفضية وكيس بداخله أوراق وقطع نقدية صغيرة أكبرها من فئة العشرين ألف ليرة، قالت المتهمة إن “المدام” أعطتها اياهم فيما اقرت بالسرقة في التحقيق الأولي معها.
وانتهت المحكمة في حكمها الى منح المتهمة الأسباب التخفيفية بالنظر الى ظروف الدعوى كافة وبما لها من حق التقدير، ورأت أن تحديد التعويض الذي يقتضي الحكم به عن جريمة القتل له طابع معنوي لأن أي تعويض مادي لا يمكن أن يعوّض فقدان حياة إنسان.