كتب أنطوان فرح في صحيفة “الجمهورية”: عادت نغمة التجاذبات الى ملف سلسلة الرتب والرواتب. الهيئات الاقتصادية في جهة، والموظفون والعمال في الجهة المقابلة، والدولة في موقف الحياد تراقب الفوضى الخلاقة التي تستولدها صراعات طرفي الانتاج.
هل يعاني الاقتصاد فعلا من صعوبات تحول دون إقرار سلسلة الرتب والرواتب؟
بصرف النظر عن الوضعين المالي والاقتصادي، لا بد من طرح السؤال البديهي: هل يؤدي إقرار ودفع موجبات السلسلة الى ضغوطات اضافية على الوضع الاقتصادي؟ وماذا عن النظرية المعاكسة التي تقول ان ضخ الاموال الاضافية في السوق، من خلال زيادة الرواتب قد يساهم في تحريك العجلة الاقتصادية، ويساهم في دعم بعض القطاعات، وليس العكس؟
هذا السؤال يستدعي الاجابة على السؤال التالي: ما هي العوامل التي تحدّد مستوى الاجور والرواتب في اي دولة في العالم؟
من أجل تخفيف التفاصيل العلمية الاقتصادية المرتبطة بهذا الموضوع، يمكن ايراد المعادلة التالية: الرواتب هي بند من بنود الانفاق المنتج، والذي يساهم في تأمين المداخيل الكافية لتشغيل عجلة الاقتصاد الوطني، ومتطلبات الدولة.
واذا اعتمدنا استراتيجات القطاع الخاص، نلاحظ ان جدول الرواتب يستند الى مجموعة معطيات، منها: معدل الرواتب في الدولة، معدل الرواتب في فئة الاعمال الخاصة التي ينتمي اليها المشروع، الانتاجية المتوقعة، المداخيل والارباح المقدرة. هذه العوامل يتم الاستناد عليها لتحديد الرواتب.
انطلاقا من هذه الحقائق تتفاوت مستويات الرواتب في الدول. ولو أن الموضوع اختياري، او متفلت ولا يرتبط بهذا الواقع، لكانت كل الرواتب في العالم مرتفعة جدا. طبعا، تبقى الاشارة، الى ان ارتفاع الرواتب لا يرتبط بكمية المال التي يحصل عليها اي موظف بعملة بلده، بل بالقدرة الشرائية لهذا المبلغ.
وفي الاجمال يجري قياس هذه القدرة بعاملين: كم يساوي هذا المبلغ بسلة العملات العالمية المعتمدة، ومنها الدولار واليورو والجنيه والين… العامل الثاني، ما هو معدل التضخم في هذه الدولة، ومعدل اسعار السلع الحياتية، والسلع المعمّرة.
اذا طُبقت هذه الحقائق على الوضع اللبناني، هل يمكن القول ان معدل الاجور في القطاع العام منخفض، ويحتاج الى تعديل؟
في هذا السياق، لا بد من الاشارة الى أمرين: اولا، ان القدرة الشرائية للمواطن مُصانة بواسطة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية على الدولار. وهذا يعني، ان مصرف لبنان، وبالنيابة عن الدولة يدعم الليرة، لكي يحافظ على القدرة الشرائية للمواطن.
هذا الدعم لديه كلفة مالية، يتم دفعها نيابة عن ذوي الدخل المحدود، وهو شبيه بأي دعم يتم لسلعة ما، كما هي حال دعم الرغيف او سواه. ثانيا، ان قسما لا يستهان به من موظفي القطاع العام، يستفيد من مدخول اضافي، يتراوح بين الاكراميات المتواضعة، وبين الرشاوى الضخمة التي يجمع عبرها ثروات.
ماذا يعني وجود هذين العاملين في الحالة اللبنانية؟
بالنسبة الى عامل دعم الليرة، وفي حال زاد الضغط المالي على الدولة من خلال تضخيم كتلة الرواتب يصبح مُحتّما البحث عن متنفّس لتخفيف هذا الضغط. ومن البديهي ان الانظار سوف تتجه نحو وقف دعم الليرة.
بالنسبة الى عامل الرشاوى، ستكون المعالجة أشدّ تعقيداً، وهي شبه مستحيلة ما دام الفساد يرتبط بالطبقة السياسية الحاكمة، والتي لم تطلق حتى الان اي اشارة جدية – باستثناء الكلام والوعود باستخدام حرف السين، وهي وعود لا يُبنى عليها طبعا – الى وجود نية لوقف نهب المال العام من فوق، وبالتالي، لن يكون متاحاً وقف السرقة من تحت.
في المقابل، يتعرّض القطاع الخاص الى ضغوطات متصاعدة في السنوات الاربع الأخيرة، وحجم الاقتصاد الوطني لا يزال ثابتا على عتبةالـ50 مليار دولار سنويا، بما يعني ان الوضع أصبح أضعف من السابق في تحمّل الضغوطات الاضافية.
وفي السياق، تواجه المالية العامة تعقيدات وصلت الى الخط الاحمر، من خلال ارتفاع العجز السنوي الى 5,5 مليار دولار. وهذا الرقم مرشّح للارتفاع الى 8 مليار دولار في السنوات الاربع المقبلة. كما ان فساد الطبقة السياسية أوصل كتلة الرواتب في القطاع العام الى استنفاد حوالي ثلثي الانفاق، بسبب توظيف المحاسيب وتحويل القطاع العام الى قطاع غير منتج، وغير مفيد للبلد.
الخلاصة التي يمكن الوصول اليها، ان البلد يحتاج تغييرات جذرية قبل التفكير بمعدلات الرواتب، لأن خطط الهروب الى الامام، لن توصل سوى الى الهاوية، في حين ان الخطة الاقتصادية الشاملة التي تحولت الى شعار سياسي وانتخابي، لا تزال منذ عشرات السنوات مجرد مشروع يستند الى مبدأ سوف نفعل كذا وكذا وكذا…