كتب علي الحسيني في صحيفة “المستقبل”:
جرود عرسال.. عنوان جديد لاستنزاف يقوده «حزب الله» بحق عناصره. الموت هناك مرّة جديدة يُحاصر الشبان ويضعهم أمام خيار أوحد لا مفرّ من الهروب منه. معركة لا تستأهل كل هذا الحشد ولا التجييش ولا حتّى الدعم الاعلامي، لكن الظاهر أن تبريرات الموت مطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى والإخفاقات المتلاحقة، لا بد أن يُستعاض عنها بإستعراضات واسعة تُشبه تلك التي تحصل في الجرود و«إنجازات» مُصوّرة علّها تُساعد في محو الأوجاع من ذاكرة بيئة لم تشفَ جروحها منذ ستة أعوام.
لا صور ولا مشاهد لعناصر تنظيم «داعش» الإرهابي تُبثّ من الجرود. «جبهة النصرة» حالة شاذّة تنتمي بأفكارها وممارساتها إلى الجماعات «الإرهابية»، كما وأن دحرها من الجرود التي احتلتها غدراً يوم شاركت بإعدام وأسر جنود لبنانيين، واجب وطني محصور بيد الجيش وحده، وليس بيد أحزاب تعمل لصالح أجندات خارجية وتتحرّك وفق مصالحها، والشواهد في هذا المجال كثيرة لا مجال لحصرها. لكن كل هذا، لا يُلغي أن ثمة إرهاباً يفوق حجمه «النصرة» وأخواتها، إرهاب قطع رؤوساً ومثّل بجثث وأحرق أحياء وأرسل سيارات مفخّخة إلى كل منطقة في لبنان. إرهاب اسمه «داعش»، لم نلحظ لعناصره صوراً في الجرود، ولم نسمع عن اسمهم لا في مواجهة ولا في عملية فرار فردية أو جماعية. هنا يُطرح أهم سؤال: أين إرهاب «داعش» من معركة «حزب الله»؟.
من بوابة الموت وبعد غياب نسبي، يعود «حزب الله» مُجدّداً ليتصدر واجهة حرب ينوب فيها عن النظام السوري. ومن بوابة الأوجاع العريضة، استعاد الحزب خلال اليومين المنصرمين، مشاهد التشييع وتناقل أخبار النعي التي يبدو أنها ستظل ترافق الأهالي وتزيدهم وجعاً خلال المرحلة المقبلةً، على الرغم من محاولات الإطمئنان التي حاول الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، زرعها فيهم يوم أعلن إنسحاب حزبه من الحدود اللبنانية – السورية، قبل أن يعود ويزجّ اليوم بأبنائهم في معركة الجرود خصوصاً وأن أهالي هؤلاء العناصر، كانوا تلقّفوا هذا الإعلان كمقدمة لعودة جميع أبنائهم من الداخل السوري في أقرب وقت مُمكن، فإذا بهم اليوم، يتهيأون لاستقبالهم للمرّة الأخيرة، مع أمنيات للبعض، بأن تكون فعلاً، المرّة الأخيرة.
نهاية الاسبوع المنصرم كانت إلى حد كبير، عنواناً لفظاعة الحرب التي يخوضها «حزب الله» في سوريا وقساوتها لجهة الخسارات المتتالية التي ما يزال يتعرّض لها منذ تدخله في هذه الحرب. هذه المرّة نقل الحزب معركته إلى تماس الداخل اللبناني، فاختار جرود عرسال لتكون شاهدة على همجية الحرب التي يخوضها تحت مسميات متعددة لا يمكن وضعها إلا في خانة الدفاع عن النظام السوري وتثبيت حكمه، ولو على حساب دماء الشعبين السوري واللبناني، ولا همّ إن كانوا أطفالاً أو نساءً أو شيوخاً، فالمهم أن يُستكمل تعبيد طريق «الهلال الفارسي» والوصول عبره عبر «الواجب الجهادي»، في سوريا، ربما إلى «القدس» العالقة على لائحة إنتظار «التحرير».
إنغماس «حزب الله» ومشاركته في الحرب السورية التي تأكل من رصيده الشعبي في قلب بيئته، والتي تنعكس في مجالها الأخطر على الوضع اللبناني وخصوصاً في الجرود، يُلاقيه الجيش بكثير من الحزم والحسم على أرض يتكاثر فيها حجم الصراع. عمليات نوعية يرسم من خلالها الجيش مستقبل الجرود وأمنها الموعود على يد عناصر تُعانق جباههم السماء وتُغرس أقدامهم في الأرض فيرسمون طوقاً مُحكماً يلف الخناق حول رقبة الجماعات الإرهابية ويُكبدها خسائر فادحة مع كل طلعة شمس.
وفي موضوع إنخراطه في الويلات المستمرة، يصح الجزم أن «حزب الله» دخل في نفق موت مع عدم وجود نيّة لديه، بالعودة منه. هذا الجزم يُمكن أن يُلمس من خلال خطابات قادة الحزب أنفسهم الذين يعتبرون أن الحرب في سوريا، معركة بين «الخير» و«الشر»، وبما أن الخير برأيهم يتمثّل بالحزب وحلفائه، فهذا يعني ان الشعب السوري مُمثلاً لمحور الشر. وضمن هذا المنطق اللامنطقي، يحاول اليوم ومن خلال معركة الجرود، استعادة أمجاد خسرها منذ أن حوّل أولوياته من الرصد عند جبهة الجنوب بعد انسحاب الإسرائيلي منها، إلى حرب فتحها الجيران كان القتل والتنكيل والسجن من نصيبهم، لذنب أنهم رفعوا الصوت عالياً في وجه جلّادهم. وأحد أوجه المجد الذي يسعى الحزب إلى استعادته اليوم، يتمثل باستبدال جملة تقديم واجب العزاء بـ «التبريكات» وهذا ما فعله نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم خلال زيارته عائلة الفتى محمد مهدي حسّان أبو حمدان، ومثله فعل إعلامه أثناء نقله وقائع تشييع أحد عناصره في الغبيري أمس.
على مدى الأيام الماضية، حشد «حزب الله» مؤسساته الإعلامية وتلك التي تلتزم خياراته. هيّأ كل الظروف لبدء معركته. شيطن عرسال وأهلها ووضعهم في خانة الإرهاب. لاحق «النصرة» لفترة طويلة على طاولات المفاوضات من بلد إلى آخر، وآخرها في جرود عرسال، لكن يبدو ان حصادها لم يأتِ وفق بيدره، فقرّر أن يُعلنها حرباً، علّه يستعيد من خلالها، ثقة كان فقدها في القلمون ودمشق وحلب ومضايا والزبداني. ثقة اهتزت يوم وقف أمام دموع الامهات، عاجزاً عن تبرير مقتل أبنائهن وزجّهم في حرب تحوّلوا فيها إلى وقود تُشعلها المفاوضات وتُخمدها الصفقات. حتّى أن في بيئة الحزب الريفيّة، يُشبّه الأهالي مقتل أبنائهم بالموت العابر للقرى والبلدات، فيزور بيوتهم في كل يوم ليحصد منهم خيرة شبابهم، لكن الحزب يُصرّ على جعل جمهوره يكتوي بنيران حروب يبتكرها هو ويُلاحق شرارتها من مكان إلى آخر ليعود في كل فجر ويزفّ اليهم أخباراً موجعة وروايات مجبولة بالدماء. وآخر الأوجاع، شبّان، أسقطهم «واجب» لم ينصفهم، لا في نعيهم، ولا في إيصال خبر رحيلهم إلى أهل ينتظرون عند عتبات بيوتهم، وجوهاً قد تطل باسمة وقد تصل مُحملة إلى مثواها الأخير.
في ملخص معركة جرود عرسال التي فتحها «حزب الله» منذ ثلاثة أيّام، أن قاعة «الحوراء زينب» في الغبيري، عادت لتفتح أبوابها مجدداً، لتستقبل شُبّاناً جدداً سقطوا على جبهة جديدة اسمها «جرود عرسال».