عندما كان الانقسام السياسي حاصلا بين فريقي 8 و14 آذار، كان رئيس اللقاء الديموقراطي وليد جنبلاط مع كتلة من 11 نائبا يشكل القوة المرجحة، وما يسمى باللغة العامية «بيضة القبان». ولذلك فإنه، وبعد أحداث 7 أيار التي ضيقت عليه الخناق، وبعد انتخابات العام 2009 التي ربحتها قوى 14 آذار ولم تستطع أن تترجم فوزها إلى واقع سياسي، عندما قرر جنبلاط مغادرة 14 آذار وتأييد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بدأ منذ ذلك الحين الانهيار التاريخي في بنيان 14 آذار بفقدانه «العصب الجنبلاطي»، وحصل اختلال في ميزان القوى، حيث رجحت الكفة لمصلحة حزب لله وفريقه، أي فريق 8 آذار.
وفي الواقع لم تترجم حكومة ميقاتي هذا الواقع تماما، ولم تكن حكومة حزب لله وإنما ساهمت كتلة وسطية تضم وزراء الرئيس السابق ميشال سليمان وميقاتي وجنبلاط في حفظ حد أدنى ومعقول من التوازن.
وظل دور جنبلاط فاعلا ومؤثرا من خلال هذا المحور، لكن دوره بدأ يتلاشى منذ عودة الرئيس سعد الحريري إلى لبنان على مرحلتين: من خلال حكومة تمام سلام أولا، وبعد ذلك قدوم الحريري لخوض معركة رئاسة الجمهورية.
لقد كانت علاقة جنبلاط مع الحريري ساءت كثيرا في فترة السنوات الخمس. فالحريري حمله مسؤولية الانقلاب السياسي الحكومي الذي حصل، بينما كان جنبلاط يحمل الحريري مسؤولية الخسارة التي لحقت به ويبلغ إلى المسؤولين السعوديين عدم ثقته بقدرات الحريري السياسية. حتى عندما قرر الحريري تأييد انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية كان جنبلاط يسعى إلى إقناع السعوديين من خلال موفده الوزير وائل أبو فاعور بأن هذا الخيار سيلحق الضرر الأكيد بدور السعودية ومصالحها في لبنان وسيعزز نفوذ وسيطرة حزب لله. ولذلك، فإن أول ما فعله الحريري عند تشكيل حكومته هو إقصاء أبو فاعور ليحل محله الوزير مروان حمادة ويتولى مهمة صعبة هي إعادة العلاقة بين جنبلاط والحريري إلى سابق عهدها.
كشفت معركة رئاسة الجمهورية محدودية دور جنبلاط وتأثيره، فمع إعلان الحريري مع كتلته النيابية الفضفاضة والصوت السني «الذهبي» تأييده رئاسة عون في إطار تسوية تعيده الى رئاسة الحكومة، حتى بدا أمر انتخاب عون محسوما أيا يكن موقف جنبلاط الذي أثبت مرة أخرى أنه يحفظ «خط الرجعة» ويقرأ التوازنات انطلاقا من «كتاب الجبل»، ولذلك لم يذهب الى ما ذهب إليه حليفه الرئيس نبيه بري من حجب أصوات كتلته عن عون والتصويت السلبي والاعتراض بالورقة البيضاء.
وعندما انطلقت عملية تشكيل حكومة العهد الأولى، بدا جنبلاط الأكثر انكفاء والأقل إلحاحا في حصته الوزارية، واكتفى بحقيبة واحدة هي وزارة التربية.
في الواقع، مارس جنبلاط أقصى درجات التساهل والمرونة في موضوع الحكومة لأنه كان يعتبر أن معركة قانون الانتخاب هي الأهم وبمثابة معركة حياة أو موت سياسي بالنسبة إليه، ولذلك خاض معركة شرسة في الدفاع عن آخر معاقله في الجبل، ولم يهدأ إلا بعدما انتزع اعترافا بوضعه الخاص وتعهدا بأن يكون قضاءي الشوف وعالية دائرة واحدة في أي تقسيمات انتخابية لأي قانون جديد. وهذه الضمانة حصل عليها جنبلاط بفضل الرئيس بري أولا وحزب الله ثانيا و«الثنائي المسيحي» ثالثا الذي أعطى جنبلاط ما يريد لحماية الوضع والمصالحة في الجبل.
وفي نهاية المعركة التي أفضت الى «النسبية و15 دائرة» بدا جنبلاط ممتنا بشكل خاص للرئيس بري وللقوات اللبنانية ممثلة في الشوف بالنائب جورج عدوان، وبدا في أقصى درجات البرودة حيال الرئيس سعد الحريري الذي لم يفعل شيئا لمساندته، وحتى أن جنبلاط اشتكى من إقصائه عن «مطبخ القانون» ومركز القرار السياسي بشأنه ومن عدم وضعه من قبل الحريري في تفاصيل وأجواء ما كان يجري، والتي كان يعرفها ويستقيها من مصادر أخرى أبرزها عين التينة.
وقد مارس جنبلاط سياسة واقعية بأن مشى في التسوية الرئاسية الحكومية التي اكتملت أخيرا بقانون الانتخابات، وعرف حجمه وحدوده عندما ارتضى أن يكون ملعبه ودوره في حدود الشوف وعالية وفي حجم الطائفة الدرزية. جنبلاط ربما أخطأ في رهانات وحسابات سابقة، لكنه مازال قارئا جيدا للتحولات والأحجام والأدوار، ويعرف تماما أن تغييرا جوهريا لحق بوضعه الذي لا يمكن أن يعود إلى ما كان عليه: بشار الأسد لم يسقط، إيران عززت وجودها في سورية ولبنان، حزب الله أصبح جيشا ولاعبا إقليميا، الأميركيون تركوا أيام أوباما 14 آذار لمصيرها، 14 آذار انهارت وتفككت لأن تيار المستقبل ضعف وخرج الوضع عن سيطرته، فيما 8 آذار تحافظ على حد أدنى من التماسك لأن حزب لله مازال قويا وممسكا بزمام الأمور.
وتحجم جنبلاط دورا ونفوذا وانخفض سقف طموحه الى حد الحفاظ على وجوده والاحتفاظ بكتلته النيابية الحالية، وهذا الأمر لم يعد سهلا ولا مضمونا كما كان الحال من قبل. وجنبلاط الآن هو من يحتاج إلى إبرام تحالفات في الشوف وعالية مع واحدة أو أكثر من هذه القوى الثلاث الأساسية «القوات اللبنانية – التيار الوطني الحر – المستقبل». ففي الشوف ثلاث كتل ناخبة متقاربة درزية وسنية (إقليم الخروب) ومسيحية. وفي عالية قوة درزية ضاربة مع كتلة مسيحية وازنة وكتلة شيعية محدودة، ولكن يحسب لها حساب.
وما يتطلع إليه جنبلاط كحد أقصى هو أن يكون له في الشوف وعالية 7 نواب من أصل 3:13 دروز (اثنان في الشوف وواحد في عالية)، 3 مسيحيين (واحد في الشوف واثنان في عالية) وسني (الشوف). فإذا استطاع أن يضيف إلى هذه المقاعد السبعة مقعدا ثامنا ممكنا في البقاع الغربي ومقعدا تاسعا صعب المنال في بيروت، يكون قد حقق أفضل نتيجة، ولكن كتلته ستشهد انخفاضا إلى ما دون المقاعد العشرة.
وليد جنبلاط نجح في الحفاظ رغم كل المتغيرات غير المنسجمة مع مواقفه وحساباته على زعامته الدرزية وعلى أن يظل رقما صعبا ولكن ليس الأصعب وواحدا من الأقطاب الستة الكبار (عون ـ بري ـ الحريري ـ نصرالله ـ جعجع ـ جنبلاط).
حصل انحسار وانكفاء في المسار السياسي لجنبلاط، لكنه راض بهذا «القدر» الكافي لتأمين انتقال سلس في زعامة المختارة وفي رئاسة الحزب الاشتراكي إلى نجله تيمور، ولديه متسع من الوقت لتدريب تيمور وتلقينه أصول وفنون السياسة، وأيضا لممارسة هوايته القديمة في السفر والتنقل بين البلدان، وهوايته الجديدة في التغريد السياسي عبر «تويتر» والتنقل على ضفاف الحلفاء القدامى والجدد.