كتب دافيد عيسى في صحيفة “الديار”:
«اللقاء الحواري التشاوري» الذي انعقد في قصر بعبدا لمرة واحدة ليس كافياً ولا تترتب عليه نتائج وفوائد اذا توقف عند هذا الحد، فالبلد يعجّ بالمشاكل والملفات المتراكمة التي لا سبيل الى حلّها ومقاربتها في لقاء حواري عابر، والمؤسسات الدستورية بظروفها واوضاعها الراهنة ليست قادرة ومؤهلة على الخوض في القضايا الشائكة المعقدة.
الحوار الوطني اليوم مطلوب اكثر من اي وقت لأن درجة المخاطر مرتفعة وتأثير الأزمات والحروب الإقليمية صار اكبر واخطر، الى درجة بات من الصعوبة بمكان الفصل بين الوضع اللبناني واوضاع المنطقة وتحييد لبنان عن سلسلة من الأزمات المتدافعة والمتداخلة في سوريا والعراق وبين السعودية وايران وبين قطر والخليج.
هذه الأزمات الإقليمية تلقي بثقلها على لبنان وترخي بظلالها الكثيفة على اوضاعه الهشّة والدقيقة في توازناتها وتناقضاتها، ولم يعد جائزاً وممكناً التغاضي عن الملفات والقضايا الكبيرة، ووضعها جانباً بحجة انها ملفات «خلافية» والنقاش فيها سيؤدي الى تفجّر خلافات وانقسامات البلاد في غنى عنها.
فالحوار لا يكون حول ملفات وقضايا متفّق عليها وانما حول كل ملف يدور حوله خلاف ونزاع، وتجاهل الأزمات والمشاكل وتأجيلها ليست الطريقة المناسبة لإدارة الوضع وانما تكون كمن يدفن رأسه في الرمال او يهرب الى الأمام ويترك للوقت ان يحلّ المشاكل في حين ان المشاكل تكبر مع الوقت وتزداد صعوبة وتنذر بشر مستطير.
ان سياسة الانتظار، انتظار المتغيرات الإقليمية والرهان عليها، وسياسة كسب الوقت والتأجيل والمماطلة، كل هذه السياسات لا تفيد ولا «تطعم خبزاً»، وما يفيد هو التصدّي لكل المسائل والقضايا الوطنية التي لها علاقة بلبنان الكيان والدولة، بدوره ومستقبله، وفي طليعتها ملفات على درجة وافية من الدقة والحساسية لأن طابعها امني ولأن امتداداتها اقليمية مثل ملف السلاح الفلسطيني والمخيمات الخارجة عن القانون او مثل ملف النزوح السوري والمخيمات التابعة له.
– ملف النازحين السوريين
ملف النازحين السوريين معقد جداً وليس باستطاعة الحكومة ان تجد له حلولاً مستدامة، فهذا الملف اكبر من الحكومة وطاقتها على التحمّل ويستأهل وحده حواراً وطنياً، يكون بنداً اولاً ووحيداً على جدول اعماله نظراً لتعاظم اخطاره وتفاقم تداعياته السلبية على مجمل الأوضاع والقطاعات، ولأن عامل الوقت يلعب في غير مصلحة لبنان، فكلما طالت الحرب السورية وطال امد اللجوء والنزوح في الخارج فإن عودة النازحين تصبح اصعب وابعد منالاً بعدما يكونون قد ثبّتوا اوضاعهم واستقروا وباتت لهم اعمال ومداخيل.
اصبح معلوماً ان عدد النازحين السوريين المسجّلين لدى المفوضية العليا لللاجئين يبلغ نحو 1,1 مليون نازح وفي الواقع حوالى 1.5 مليون. وهذا العدد الكبير يشكل مخاطر جمّة على لبنان ويرتب عليه اعباء كبيرة تفوق امكاناته وقدرته على التحمّل.
ان بلداً صغيراً مثل لبنان الضعيف في موارده وقدراته والضيق في مساحته والمتنوع في طوائفه ونسيجه الإجتماعي والثقافي يواجه تحديات في كل المجالات وعلى جميع المستويات، فالنزوح ادّى الى ارتفاع معدّل الاكتظاظ السكاني بحيث وصلت الكثافة السكانية الى 520 شخصاً في الكيلومتر الواحد بعدما كانت لا تتجاوز الـ 370 شخصاً، وفي المقابل لا تتعدّى الكثافة في الأردن الـ 62 شخصاً وفي تركيا الـ 100 شخص بعد النزوح السوري.
وتسبّب النزوح بارتفاع معدلات البطالة من 11 في المئة الى 25 في المئة من القوى العاملة نتيجة ازدياد المنافسة من اليد العاملة السورية، وهذه المنافسة تخّطت المهن التقليدية التي يعمل فيها السوريون عادة مثل الزراعة والبناء الى الحرف والمهن الحرة والتجارة.
ويثقل النازحون كاهل البنى التحتية من كهرباء وماء واتصالات وطرقات كما يشكلون ضغطاً كبيراً على المستشفيات والخدمات والمرافق الصحية.
لكن اخطر ما ينجم عن ازمة النزوح هو:
1- الإاختلال بالتوازن الديموغرافي الدقيق في لبنان القائم على تعداد طائفي ومذهبي، ولمّا كانت الأكثرية الساحقة من النازحين تنتمي الى طائفة محددة فإن وجودهم اذا طال وتكاثروا ولم يسجلوا اطفالهم سيولد خللاً كبيراً في الميزان السكاني يهدد جوهر لبنان ووجوده.
2- التسبّب باضطراب الأمن الاجتماعي نتيجة ارتفاع معدلات الجرائم، جرائم القتل والسرقة والاغتصاب وغيرها.
3- استقدام الإرهاب الى لبنان حيث يتّخذ من المخيمات مركزاً اساسياً لأن هامش الحركة فيها واسع والتنقل منها واليها ميسّر، واذا كان من الإيجابيات لأحداث عرسال الأخيرة والعملية الاستباقية التي قام بها الجيش اللبناني فإنها تتمثل في انكشاف و«انفضاح» واقع المخيمات التي تعشعش فيها اوكار الإرهاب ويقطنها ارهابيون مسلحون ومزودون بأحزمة ناسفة وعبوات وكل ما يمتّ الى الإرهاب بصلة بحيث تحول فيها النازحون السوريون العزل الى دروع بشرية.
من هنا لا بدّ من وضع مخيّمات النازحين تحت رقابة امنية مشدّدة واتخاذ اجراءات الدهم والتفتيش والتوقيف وبطريقة استباقية كلما دعت الحاجة ولاحت اخطار، حماية للنازحين السوريين العزل اولً القاطنين في المخيمات، واستباق اي تحركات محتملة من قبل الخلايا والمجموعات الإرهابية.
ولأن ازمة النازحين باتت على هذا القدر من الخطورة فإنها تستدعي معالجة عاجلة وجدية قبل ان تستفحل ويصبح استيعابها صعباً ويفوت الأوان، فلا يكفي ان تصدر تأكيدات ومواقف رافضة لتوطين السوريين على ارض لبنان، ولا يكفي ولا يجب ان نعوّل على المجتمع الدولي الذي يربط عودة السوريين الى بلدهم بالحلّ السياسي النهائي واستقرار الأوضاع وانتهاء الحرب، والذي يطرح العودة الطوعية وليست القصرية، ويُفضّل تثبيت واستقرار النازحين في اماكن اقامتهم الحالية في دول الجوار السوري ودمجهم في الحياة الاجتماعية الاقتصادية. وهذا ما يفسّر كيف ان مساعدات الدول للبنان مشروطة بتحديد وجهة صرفها بحيث تصبّ في خدمة النازحين وتأمين التسهيلات والخدمات لهم كي يبقوا حيث هم.
على اللبنانيين مسؤولين وقيادات احزاباً ومجتمعاً مدنياً الخروج من الجدل البيزنطي ومعالجة هذا الموضوع الخطير، وان يعتمدوا على انفسهم في التعاطي مع ازمة النازحين والحدّ من مساوئها واضرارها، وعلى اركان الحكم واقطاب السياسة ان يستأنفوا الحوار الوطني في اقرب وقت ممكن وان يتفرّغوا لأزمة النازحين ويعطوها اولوية واهتماماً خاصاً، ويجروا مقاربة جديدة لها تتناسب مع وتيرتها السريعة في التطور والتفاهم، ويقرروا الإجراءات اللازمة والحازمة التي تضع حدّاً لواقع الفوضى والتسيّب في المخيمات وتضع قضية النازحين على سكة ااحتواء والحلّ المتدرج.