بعد أن فقد الجيش السوري أعدادا كثيرة من المقاتلين، لجأ النظام إلى رفد صفوفه بميليشيات تموّلها إيران وتدربها. ومع تطوّر الصراع وتمدده، تحولت هذه الميليشيات من يد عون للنظام إلى قوات صاحبة نفوذ وسلطة تهدد بأن تتجاوز مؤسسات الدولة وتفرض نفسها كأمر واقع جديد لترسّخ انتقال سوريا من مرحلة هيمنة الحزب الواحد إلى دولة ميليشيات.
ورصدت دراسة أعدّها المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) هذه التغييرات ضمن برنامج خاص أطلقه المعهد لمتابعة الأزمة السورية بمختلف أبعادها وتطوراتها.
ويشير معدّ الدراسة الباحث بالجماعات الجهادية والطائفية مازن عزي إلى أن تغوّل الميليشيات في الميدان السوري. فقد أوكل النظام السوري الكثير من سلطاته للميليشيات الموالية على مدار السنوات الست الماضية، حيث عهد لها النظام مهمة الحفاظ على الأمن، والنيابة عنه في إدارة المناطق، والتعامل مع الشؤون اليومية للمجتمعات المحلية.
وفي إشارة لحجم الصلاحيات التي حصلت عليها هذه الميليشيات، تقول سمة عبدربه، الكاتبة في الشأن السوري لـ”العرب”، إن “التفويض الذي قدّمه النظام للميليشيات كان بمثابة القرار الذي تنتظره هذه الجماعات المسلحة للتصرف بصورة لا مركزية غير مقيّدة بأيّ تعليمات من قياداتها التي هي بدورها لم تعد تنتظر الأوامر من القصر الرئاسي”.
وفي ظل تفشي نفوذ هذه الميليشيات، بات من الصعب اليوم على الدولة استعادة سلطتها من جديد. فبالإضافة إلى ضعف الدولة السورية وفشلها المتزايد في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، اكتسبت الميليشيات الكثير من النفوذ بحيث لن تستطيع الدولة ضبطها أو قمعها لتفرض سيطرتها بالكامل من جديد على الأسلحة وممارسة أعمال العنف، حتى ولو رغبت في ذلك.
ويرى مازن عدي أن تحوّلا كبير طرأ على بنية الميليشيات التي لم تعد تقتصر على السوريين بل شملت ميليشيات من لبنان والعراق. كما أتت إيران بمرتزقة تموّلهم من كل أصقاع الدنيا تحت شعارات الحرب المذهبية المقدسة أو رايات “الممانعة”.
ويقول عدي لـ”العرب”، “هذه الميليشيات أذرع إيرانية يوجهها ما يسمى الحرس الثوري الإيراني، وبالتالي لم يعد للأسد سلطة على غالبيتها، بل إن جزءا من أجهزته ووحداته العسكرية صارت تدار بشكل مباشر من إيران”.
ويضيف عدي “هذا يفسر إلى حد ما يحصل على أرض الواقع من تضارب في المواقف والممارسات. ويفسر إلى أي حد تملك إيران قدرات تعطيلية وتخريبية داخل الساحة السورية واللبنانية والعراقية واليمنية لأن مشروعها مناقض ومخترق لبنى الدول الهشة في محيطها العربي، بل إن اُسلوب الميليشيات بمفهوم الجماعة/العصابة التي تأتمر بمموّلها هو الشكل المعتمد لتدمير البنى المجتمعية العربية لأن نهج الميليشيا لا ينمو إلا على حساب الدولة، كما هو حاصل مع حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق وميليشيا الحوثي في اليمن..”.
وتختلف درجات حدة الفوضى التي تسود الأراضي السورية في الوقت الحالي حسب التماسك الاجتماعي والمناخ الطائفي العرقي السائد في المنطقة الواحدة؛ بيد أنه يمكننا أن نرى نموذجا مماثلا في جميع المناطق التي يسيطر عليها النظام.
ويعتقد الكاتب السوري بسام القوتلي أن عجز النظام عن تمويل الميليشيات جعلها تخرج عن سلطته، ويقول القوتلي لـ”العرب”، “نمت سلطة هذه الميليشيات مع استمرار القمع وتفكك الدولة السورية ونقص إمكانياتها المادية. حيث اعتمدت الميليشيات على أعمال النهب والإبتزاز كمصدر رئيسي لتمويلها، وهذا ما أعطاها إستقلالية في العمل والتمويل لم تكن ضمن الحسابات الأساسية عندما أطلقت يدها للعمل في سوريا”.
ويتفق المحلل السياسي السوري محمود بادنكجي مع أن الدافع المالي له دور كبير في توسع سلطة الميليشيات. ويقول لـ”العرب”، “خصوصا أولئك الذين بذلوا التضحيات، يعتبرون أنفسهم أصحاب حقوق مشروعة ثمنا لدماء أحبّائهم، في غياب التعويضات الماليّة التي يعجز النظام عن سدادها”.
ويعرض مازن عزي في دراسته دور الميليشيات المحلية من اللاذقية وحتى السويداء في إدارة المناطق، وما تمارسه من أعمال النهب والقتل والاختطاف بشكل يومي للحصول على فدية، عندما تواجه تعثرات وضغوطا مالية أو كجزء من الصراعات الداخلية والحروب من أجل فرض السيطرة على الأراضي.
وتفرض الميليشيات إتاوات الحماية على التجار وأصحاب الصناعات، وتتدخل في شؤون الأعمال الخاصة وتفرض ضرائب على الأعمال العامة والخاصة كما تتحكم أيضاً في أسعار السلع.
ويقدم الكاتب السوري غسان المفلح مثالا آخر وهو الميليشيات في مدينة السويداء، التي يقول في تصريحات لـ”العرب”، “إنها منقسمة إلى نوعين: الأول هو جماعات مكوّنة من بعض أبناء السويداء، والنوع الثاني ميليشيات مكوّنة من البدو، وتتمركز أساسا بالقرب السويداء من درعا”.
وتعتبر مدينة حلب أقوى مثال على أعمال العنف والفوضى وانعدام الأمن. وتسيطر الميليشيات التابعة للواء الباقر واللجان الشعبية وعشيرة البري والأنجيرة وكتائب القدس الفلسطينية وكتائب البعث على أحياء حلب الشرقية، في حين تنتشر ميليشيات الشبيحة التي تعمل مع الأجهزة الأمنية في جميع أنحاء غرب المدينة، حسب دراسة العزي.
وتشير سمة عبدربه إلى أن روسيا تصرّفت بذكاء بعيد تسلمها حلب من تركيا حيث أتت بشيشان سنّة كرجال دين وشرطة لضبط أعمال التخريب التي كانت تمارسها عناصر الميليشيات الإيرانية وميليشيات النظام، كما أقدمت العناصر الروسية على تثبيت ملكيات السكان حتى لا تسطو الميليشيات عليها. وتقول عبدربه “فوجئ أهل حلب الذين كانوا ينتظرون تحريرها بحجم الفوضى والسرقات التي يمارسها عناصر النظام في المدينة”.
ويقول نجيب جورج عوض، مدير برنامج الدكتوراه في كلية هارتفرد للدراسات الدينية والبي-دينية في ولاية كونكتكت الأميركية، لـ”العرب”، إن “حلب أرض محروقة بامتياز ومدينة مدمّرة بالمعنى المديني والمجتمعي والسكاني والديمغرافي، وهي لم تعد منطقة صالحة للسكن المدني الطبيعي. سيكون هناك حاجة لعمل هائل لتنظيف المدينة”.
وتحتكر الميليشيات الخدمات الرئيسية في حلب التي هيمنت عليها بالكامل وأصبحت مصدر دخل لهم، بما في ذلك المستشفيات العامة ووسائل النقل وموارد الطاقة ومياه الشرب.
وتختص كل ميليشيا مسلحة بإدارة نوع واحد من تلك الخدمات والمنافع العامة وتتقاسم العائدات مع أجهزة الأمن التابعة للنظام. فعلى سبيل المثال، تدير ميليشيا لواء الباقر قطاع النقل في حلب، وذلك باستخدام أسطول كبير من الميكروباصات، وتتقاسم إيراداتها مع إدارة شرطة المرور والأمن العسكري.
ويقول الكاتب السوري علاء الدين آل رشي لـ”العرب”، “أعلمني بالعض من سكان حلب أنهم باتوا يأنسون ويأمنون للروسي أكثر من بقية المكوّنات والتشكيلات العسكرية، وسبب ذلك أن الروس لا يبطشون كما تبطش القوى الشيعية والنظامية”. ويضيف “حلب تحت الموت البطيء بعد أن تبرعت بها تركيا وروسيا للنظام”.
ويرى نجيب جورج عوض، المتخصص باللاهوت والمسيحية المشرقية، أن قيادات الميليشيات تحوّلوا إلى أمراء حرب عينهم على المشاركة السلطة. ويقول “من الطبيعي، كما في أيّ مجتمع يعيش حالة أن يكون هناك فوضى وعدم انضباط ومحاولات من أمراء الحرب فرض أنفسهم كرقم صعب في أيّ معادلة ما بعد الحرب. رأينا هذا يحدث في لبنان بعد الحرب الأهلية، حيث بات أمراء الحرب قادة السياسة. عملية ضبط هذه المليشيات يجب أن تبادر بها القوات المسيطرة على الأرض منذ الآن. النظام في سوريا لم يعد يحكم على الأرض منذ أعوام. على روسيا وباقي القوى المسيطرة على الأرض أن تفعل ذلك”.
بين إيران وروسيا
بالإضافة إلى صراع الميليشيات مع السلطة هناك صراع آخر بين قوتين من قوى حلفاء النظام، وهما روسيا وإيران.
وعلى الرغم من الاتفاق الحالي المُبرم بين روسيا وإيران الذي ينصّ على الحفاظ على النظام السوري، إلا أن خطة أهدافهم طويلة الأجل بدأت الآن في الاختلاف. حيث أن روسيا مهتمة بدعم الدولة السورية عن طريق جيشها الرسمي، الذي تجسّده القوات المسلحة، في حين تسعى إيران إلى تشكيل ودعم وتمويل طائفة كبيرة من الميليشيات الأجنبية والمحلية الموالية للنظام، حسب دراسة تشاتم هوس.
ويرى المفلح أنه ليس لإيران مصلحة مطلقا في اتفاق دولي يبقي الأسد تحت سيطرة موسكو وواشنطن دون حصة لها، إضافة إلى أن تلغيم المجتمع بالميليشيات الإيرانية يحتاج إلى قوة بشرية، وهي هنا جزء من القوة البشرية التي يستند عليها الأسد نفسه.
ويرى بسام القوتلي أن العلاقة بين إيران وروسيا تحتوي الكثير من المتناقضات ومنها الاختلاف بالنظرة للدولة السورية، حيث تدعم روسيا وجود الدولة السورية وبسط نفوذها، بينما تعتمد إيران بشكل رئيسي على المجموعات والميليشيات الطائفية.
في ضوء التغيير الأخير في رؤية الإدارة الأميركية لإيران، بات ملف إدارة سوريا سياسيا وعملياتيا ودوليا بيد الروسي أكثر من الإيراني، حسب تقدير نجيب جورج عوض الذي يقول “مع المحافظة على حضور للإيراني على المستوى الميداني العسكري وسيكون هناك له نصيب بالجانب الاقتصادي في المستقبل”.
ويرى آل رشي أن إيران تنتصر وقتيا، ولكن روسيا تستحوذ على القرار الأخير. ويقول “إن إيران تنتصر بشكل تدريجي وتدفع جنرالاتها للموت وهي تتوسع بطريقة مغايرة هي تغير التشكيل الديموغرافي”.
الحملة الأمنية
هناك نوع من الضغط الذي بدأ في التزايد بين أنصار النظام للسيطرة على الفوضى التي أحدثتها هذه الميليشيات الموالية. وقد انعكس ذلك في خطاب رئيس النظام السوري بشار الأسد أثناء اجتماعه مع مجلس الوزراء في 20 يونيو الماضي، حيث تحدث عن بعض الظواهر الضارة التي ظهرت في السنوات الأخيرة من الأزمة، والتي تؤثر أحيانا بشكل مباشر على حقوق المواطنين، وتتمثل هذه الظواهر في القوافل الضخمة، وإغلاق الطرق، مما يخلق انطباعا بالارهاب والذعر الذي قام به بعض مسؤولي الدولة أو أشخاص آخرين.
ولا تعتقد سمة عبدربه أنه بالإمكان ضبط هذه الظواهر بسهولة في المستقبل القريب بل ستصل إلى مرحلة من الفوضى تقتل بعضها بعضا في تصفية حسابات شخصية في ظل غياب الدولة المركزية، وتضيف “هناك الكثير مما يحدث في سوريا يتم التعتيم عليه لذلك عند تفشي مثل هذه الظواهر يعمد الأسد إلى محاولة لجمها أو التظاهر بذلك على الأقل أمام المجتمع السوري من جهة كي لا يخسر مؤيديه، وأمام المجتمع الدولي من جهة أخرى”.
وقد صرّح بذلك مسؤولون في النظام، مشيرا إلى أنّهم لم يعد باستطاعتهم السيطرة على الميليشيات لأنّ النظام لا يملك المال الكافي لسدّ حاجاتهم في ظلّ التضخّم الهائل في تكاليف المعيشة، وبالمقارنة مع ما يحصل عليه عناصر الميليشيات الشيعية المتعدّدة الجنسيّات من بدل شهري وإطعام أفخر من ذاك الذي يناله الشبّيحة، حسب تقدير محمود بادنكجي.
ويضيف محمود بادنكجي “المؤيّدون في حالة من التململ والغضب الذي أصبح علنيّا، نتيجة الانتهاكات اليوميّة واستباحة الحرمات وانعدام الخدمات”، فيما يرى عوض أن ما يقوم به الأسد الآن بتعرية الميليشيات والحديث عنها هو محاولة “ليوجه الأنظار إلى مستوى التدمير المحلي والميداني ويحرّف الأنظار عن مراكز صنع القرار التي أدارت تلك الميليشيات من حلقته الضيقة”.
وفي 21 حزيران، قررت إدارة المرور في وزارة الداخلية في دمشق القيام بدوريات لمنع وقمع محاولات زعزعة الاستقرار وردع أيّ مظاهرات مسلحة من الطواف في شوارع المدينة، باستثناء السماح بالأسلحة التي تستخدمها الشرطة وقوات الأمن أثناء ساعات العمل الرسمية الخاصة بهم.
وفي 2 تموز، وقع انفجار في محيط ميدان التحرير في دمشق، مما أسفر عن وقوع عدد من الضحايا. ولم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن الحادث الذي كان من المحتمل أن يكون، وفقا لمصادر مؤيدة للنظام، رسالة غير مباشرة من الميليشيات تحذر النظام من وقف حملته الأمنية، على الرغم من نتائجها المزعزعة.
وكنتيجة لذلك توقفت الحملة الأمنية مباشرة بعد وقوع هذا الحادث. وكما لو تبدو هذه الحادثة مؤشرا كبيرا على نفوذ الميليشيات واجبار الأسد على التراجع عن قراراته العلنية.
ويخلص مازن عدي إلى أن نظام بشار الأسد بصيغته السابقة انهار، ولم يعد بالإمكان إعادة إنتاجه وصارت أي صيغة أخرى تحتاج إلى توافقات دولية واقليمية في إطار مشاريع متضاربة وصراع مصالح.
ويختم مازن عزي دراسته بالقول “لم تعد هناك أي فواصل واضحة تفصل بين سلطة الدولة ونفوذها وسلطة الميليشيات، إلا أنه يمكن النظر إلى الدولة والميليشيات في سوريا اليوم على أنهما توأم متلاصق لا يمكن فصل أحدهما دون قتل الآخر”.