كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
قبل ان تنتهي حرب جرود عرسال، بدا ان الخطوة التالية ــ وهي حرب جرود رأس بعلبك ــ القاع لطرد تنظيم «داعش» منها ــ ملزمة، وإن هذه المرة بأداة مختلفة هي الجيش. بل تظهر الحرب المقبلة طبيعية، لا تحتاج الى توقيت منفصل عن معركة عرسال.
مع ان حرب جرود رأس بعلبك ــ القاع توشك على الاندلاع، الا ان نذائرها بدأت بطيئة من خلال محاولات جس نبض متبادلة، يومية تقريباً، بين الجيش وتنظيم «داعش» منذ توقفت الاعمال العسكرية في عرسال صباح الخميس المنصرم.
من دون ان تكون خُتمت المرحلة الاولى في جرود الزبداني والقلمون في الداخل السوري، كان من المتعذر لحرب الجرود اللبنانية، المعروفة بحرب خطوط القمم من عرسال الى رأس بعلبك، ان تنتهي بإخراج مسلحي «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» من السلسلة الشرقية، واستعادة البلاد سيطرتها على حدودها. بذلك لم ينفصل ما بدأ في الاراضي السورية بغرفة عمليات مشتركة للجيش السوري وحزب الله عما استكمله حزب الله منفرداً في المقلب اللبناني من جرود عرسال.
ومن غير ان يخفى العنوان الاقليمي العريض الذي برّر العملية العسكرية المشتركة قبل اسبوع، سارع خصوم حزب الله، اللبنانيون، على الفور الى التفكير في الطريقة التي سيعوّل عليها لـ«تقريش» نتائج حرب الجرود في الداخل اللبناني، والثمن السياسي الذي قد يطلبه في وقت لاحق.
ليست هذه وجهة نظر رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي يخالف الرأي القائل ان لا اجماع على خوض حزب الله معركة الجرود. يقول: «غير صحيح. بلى هناك إجماع على ما فعل. معارضة البعض تؤكد القاعدة. الاستثناء هنا يؤكد القاعدة. موقف هؤلاء من دخول حزب الله في الحرب السورية لا يزال نفسه. لم يتغير قبل حرب الجرود ولن يتغير إبانها ولا بعدها. الآن نحن في صدد ارض لبنانية محتلة يقتضي تحريرها».
على انه لم يستبعد ــ من غير ان يجزم ــ ان يكون حزب الله في معركة جرود رأس بعلبك ـ القاع في الموقع الذي كان عليه الجيش في معركة جرود عرسال. يرى برّي ان الدور رئيسي، وقد يكون وحيداً، للجيش في المعركة المقبلة.
على ان اكثر من سبب من شأنه تغليب البعد الاقليمي لحروب الجرود بشقيها السوري واللبناني على بعد لبناني، من المفترض ان الوضع المحلي سيتأثر بما حدث، ويترك تالياً تداعيات على توازن القوى بين الافرقاء اللبنانيين. الواضح ان البعد الاقليمي هذا يرتبط مباشرة بعلاقة التحالف بين النظام السوري وحزب الله من خلال خط الامداد العريض الممتد بين لبنان وسوريا عبر السلسلة الشرقية، ناهيك بأن كليهما عدّ الارهاب يستهدفه في محاولة قطع الاوصال ابرزها احتلال الجرود:
اول الاسباب تلك، سقوط المعادلة التي كان طرحها الغرب المناوىء للنظام السوري عندما وضع رأس الرئيس بشار الاسد في كفة و«داعش» في الكفة المقابلة بحيث تكون إطاحتهما متزامنة، ويخرجان معاً من الصراع داخل سوريا كي تنشأ سوريا جديدة في منأى عنهما. في الاشهر الاخيرة غادر الغرب وجهة نظره تلك حينما لم يعد يبصر اقصاء الاسد اولوية، ولا إسقاطه مستعجلاً، بعدما باشر التحالف الدولي حملته العسكرية على التنظيم الارهابي في العراق وسوريا في آن. وها هو يقترب الآن من القضاء عليه نهائياً بعدما اضحى مشكلة في ذاته وخطراً يتهدده على نحو مباشر. عنى ذلك ايضاً ــ الى اشعار آخر على الاقل ــ ان الرئيس السوري لا يزال في صلب معادلة تسوية الحرب السورية بوجهيها العسكري والسياسي.
ثانيها، لم يكن من السهولة بمكان فصل تنظيم «الدولة الاسلامية» عن اي من الفصائل الاسلامية المتطرفة، كما عن المعارضة السورية المسلحة في السنوات الثلاث الاولى من الحرب، لو لم يعلن «داعش» دولة الخلافة الاسلامية عام 2014 ووضع نفسه وجهاً لوجه ليس مع النظام السوري المنهك في الحرب فحسب، بل ايضاً مع انظمة الدول العربية الاسلامية وتركيا التي تعاطفت مع المعارضة السورية ورامت اطاحة نظام الاسد ودعمت بقدرات هائلة الفصائل المتطرفة التي راحت واحدة بعد اخرى تطل برأسها. الى فترة ليست ببعيدة، نُظر الى «جبهة النصرة» بامتياز فرّق بينها وتنظيم الدولة الاسلامية، وعدّها اقرب الى المعارضة السورية المعتدلة، والاكثر قابلية الى التحاور معها. بلا ادنى التباس حتى اعلان الخلافة الاسلامية، نُظر الى الحرب السورية على انه انتفاضة في وجه الاسد الذي بات يقتضي ان يرحل ونظامه وانتقال سوريا الى حقبة مختلفة في تاريخها.
ثالثها، ان فريقاً من اللبنانيين يمثله تيار المستقبل والمحيطون به وجد في احتلال التنظيمات المتطرفة جرود عرسال وصولاً الى دخول المدينة في آب 2014 على انه «جهاد مضاد» لما كان اعلنه حزب الله عام 2012، عندما افصح عن تدخله في الحرب السورية دعماً لنظام الاسد. واتخذ النزاع في سوريا والعراق من الانقسام اللبناني تربة خصبة كي يحظى احتلال الجرود بتعاطف سنّي قبل ان تتلقفه بيئة حاضنة مماثلة طوال سنتين. سرعان ما اضحت مخيمات النازحين في عرسال ملاذاً آمناً للمسلحين المتطرفين، وفي الوقت نفسه قاعدة انطلاق وإمداد بذرائع شتى، اقلها ان وجهة هؤلاء إسقاط نظام الرئيس السوري. بيد ان «الجهاد المضاد» اتخذ بعداً مختلفاً عندما عزم على مهاجمة حزب الله من وراء خطوط العدو الى داخل البقاع، عبر أحزمة الانتحاريين والسيارات المفخخة من بوابة وادي حميد التي أُرغم الجيش على ابقائها مشرّعة. بذلك اقترن «الجهاد المضاد» بشل قدرة الجيش على التحرّك ما لم يحظَ بغطاء سياسي لم يُعطَ اياه حينذاك قبل الشغور الرئاسي وإبانه.