كتب غسان سعود في صحيفة “الأخبار”:
الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري لا يألو جهداً: لا يكاد يغادر عكار باتجاه صيدا أو عرسال أو بيروت أو البقاع الغربي حتى يعود إلى عكار. «حزّك مزك» يومياً. لا يكاد يطفئ سيجارة حتى يشتعل حريق. بإمكان نجل النائبة بهية الحريري أن يفتح سوقاً كبيراً لبيع المشاكل بالجملة.
حجم المطالب الخدماتية رهيب. جوع المقاولين من رؤساء مجالس بلدية ومخاتير وفاعليات نافذة هنا وهناك رهيب أيضاً. كآبة المسؤولين الذين كانوا يعتقدون بأنهم سيقبرون الفقر حين عُيّنوا مسؤولين ما بعدها كآبة أيضاً. في خضم حديثه عن بناء الدولة، يمكن دائماً أن يخرج صوت من إحدى زوايا القاعة يقول له: «هات حدثنا عن (رئيس التيار الوطني الحر ووزير الخارجية) جبران باسيل أو عن الإعجاب المتبادل مع حزب الله»، في وقت تسري فيه نغمة جديدة في الهشيم المستقبليّ تشكو الغبن اللاحق بالقضاة السنّة في العدلية والضباط السنّة في المؤسسات الأمنية والموظفين السنّة هنا وهناك. ومن يعرفون المدير العام السابق لهيئة أوجيرو عبد المنعم يوسف، يعلمون أنه سيزور المنازل بيتاً بيتاً ليحرضهم على الحريري انتقاماً، علماً بأن حضور موظف واحد من موظفي «سعودي أوجيه» يكفي غالباً ليَنغَمَّ المشهد كله.
قبل عام، كان بإمكان تيار المستقبل أن يقول للرأي العام إن رئيسه منفي ومضطهد في الإدارات ولا يسعه فعل شيء، أما اليوم، وبعد ثمانية أشهر من وجوده في الحكم، فلم يتغير شيء بالنسبة إلى المواطنين، فيما خسر المستقبل ذريعته. لو كانت آليات الدولة تسمح بإنجازات سريعة لتمكن الرئيس نجيب ميقاتي من إحداث نقلة نوعية في البنية التحتية الطرابلسية خلال مدة توليه رئاسة الحكومة. لكن الواضح، والأكيد، أن الإنجازات الجدية تحتاج إلى سنوات لا إلى أشهر، ورغم الضغط الحريري الهائل لإنجاز مشروعَي الجامعة اللبنانية ومدخل طرابلس الجديد، فإن المتابعين يقولون إن الابتهاج الشعبيّ بهما سيكون أقل من المتوقع بكثير نظراً إلى الوقت الذي استغرقه إنجازهما ومعرفة الشماليين أن الحريري يفتتحهما، لكنه ليس من يقف خلفهما. إضافة إلى أن الأزمة الاقتصادية ــــ الاجتماعية الضاغطة أعادت ترتيب الأولويات عند المواطنين، فبات إيجاد فرصة عمل أو تأمين الدواء أو غيره من الأساسيات يتقدم على كل ما عداه. وبموازاة الشعور المتفاقم بأن الحريري في الحكم و«ما طالع من أمرو»، ثمة لامبالاة حريرية كاملة بإظهار حرصه على نفوذ طائفته، في ظل المزايدة العونية اليومية في هذا الموضوع، وتكرار الميقاتيين الحديث ليل نهار عن كيفية حمايتهم لرموز الطائفة في السلطة، رغم نفوذ حزب الله الكبير في عهدهم مقابل تنازل الحريري اليوم عن كل شيء.
والحريري قبل ثمانية أشهر كان من دون مال وخدمات، لكن كان لديه خطاب سياسي وتعاطف إعلامي وشعبي. أما اليوم، فهو بلا مال وبلا خدمات وبلا خطاب سياسيّ وإعلامي. ويروى في هذا السياق أن صاحب إحدى أكبر المؤسسات الإعلامية في البلد التقى قبل مدة وجيزة سفير دولة خليجية كان يريد أن يستوضحه عن سبب حماسته لحزب الله في جرود عرسال، فأجابه بأن العلاقة الشخصية، سواء مع دولته أو مع بعض الأفرقاء المحليين، تدفعه إلى مراعاتهم في بعض القضايا. لكنه لا يعتبر أن هناك ما يلزمه بأي شيء تجاههم. فقد استفاد الإعلام اللبنانيّ طويلاً وكثيراً من الحاجة الخليجية إليه، لكن حاجة الطرفين أحدهما إلى الآخر كانت متبادلة، ولا يمكن فريقاً أن يقول إن أحدهما استفاد أكثر من الآخر، قبل أن تخرج من رحم التجربة اللبنانية شركات الإعلام والإعلان السعودية والإماراتية والقطرية المنشأ لتبتلع الأخضر واليابس. ومن هناك ينتقل رئيس المؤسسة إلى الواقع المحلي ليقول إن حقبة التأييد للرئيس سعد الحريري انتهت مع انتهاء حقبة المطالبة بالسيادة والاستقلال وما تلاها من استهداف مباشر لرموزها. أما اليوم فيمكن الالتقاء إعلامياً معه في نقطة، ومعارضته في أخرى ليفقد الحريري بذلك إحدى أهم أذرعه السياسية والتعبوية. فعملياً «تبيّض» بعض وسائل الإعلام وجهها مع الحريري بين مقدمة نشرة أخبار وأخرى، لكن لم يبقَ لرئيس الحكومة من يأتمر بأوامره غير وسائله الإعلامية الخاصة التي لا تتمتع بانتشار كبير ويعمل الموظفون فيها من دون حماسة. ويضاف إلى كل ما سبق أزمة حريرية إضافية تتعلق بتململ النواب من أدائه وعدم «توفيرهم» له في مجالسهم العامة والخاصة.
المشكلة الحريرية تشمل كل المناطق اللبنانية. لكنها في طرابلس أكثر حدة من باقي المناطق. ففي «عاصمة الشمال»، يملأ أشرف ريفي فراغ الحريري السياسيّ، ويملأ نجيب ميقاتي فراغ الحريري الماليّ؛ وبعيداً عن عراضات ريفي، بإمكان ميقاتي الوقوف ساعة يشاء ليقول إنه كان أحرص من الحريري على «الثوابت».
الماكينة الحريرية لا تعير ماكينة ميقاتي أي اهتمام، وتركز في المقابل بشكل كامل على ريفي لاعتقادها بأن من يؤيدون ميقاتي لا يمكن استعادتهم اليوم، أما المؤيدون لريفي فكانوا من صلب الماكينة الحريرية ويمكن استعادتهم في حال تخلص الحريري ــ سياسياً طبعاً ــ من ريفي. وثمة همس شمالي عن تحضير المستقبل للمرحلة الثانية من «محاصرة ريفي»، وهي مرحلة ستشمل ملاحقة بعض المطلوبين للقضاء من مناصريه ولو بقضايا صغيرة. في وقت تؤكد فيه المصادر الأمنية الشمالية المطلعة أن وضع ريفي الماليّ غير مستقر، وهو يضاعف حصر النفقات منذ نحو شهرين، علماً بأن الصحافيين فوجئوا عند إطلاق ريفي ماكينته الانتخابية بعدم وجود من يمكن تعدادهم غير زوجته وشقيقها ورئيس بلدية طرابلس، فلا الجمعيات حضرت ولا المجموعات الشمالية التي نشأت غداة الحراك الشعبيّ ولا الفاعليات الاقتصادية في المدينة. ويؤكد المطلعون أن لقاء قرنة شهوان – 2 الذي يسعى ريفي إلى إطلاقه تحول سريعاً من نعمة منتظرة إلى نقمة حين تأكد أن الحضور الرئيسي فيه يقتصر على رئيس سابق للجمهورية لا يمكنه الفوز بختم مختار في بلدته، ونائب ينتظره تحدٍّ كبير للحفاظ على نيابته. ويفيد هنا القول إن الجهد الهائل الذي يبذله المستقبل لمحاصرة ريفي واستعادة مؤيديه لا يؤدي إلى تفوق المستقبل أو تجاوزه التحديات أو غيره، إنما سيسجل في خانة النجاح المستقبلي بترتيب جزء من مشاكله الداخلية، من دون أن يكون لهذا أي تأثير على أزمة المستقبل الرئيسية المتعلقة بافتقاده المال والخدمات والإعلام والخطاب السياسي وحماسة المسؤولين.