Site icon IMLebanon

رأس بعلبك غير آبهة بـ”داعش”.. نحمل الصليب و”البواريد” ونقاوم

 

كتب الان سركيس في صحيفة “الجمهورية”:

تترقّب بلدة رأس بعلبك تطوّرات الأيام المقبلة، وتعيش تعبئةً من نوعٍ آخر، فيما الأهالي يُبدون إرتياحاً لا مثيل له بسبب التجارب الماضية، واتّكالهم على الجيش.تبدأ بوادرُ المعركة المرتقبة ضدّ تنظيم «داعش» بالظهور من بعلبك، مدينة الشمس، في هذه المدينة القلعة التاريخية والأعمدة الضخمة، وعلى جانب الطريق الرئيسة في اتجاه جديدة الفاكهة ورأس بعلبك قلاعٌ من نوع آخر حيث تشاهد بأمّ العين جنوداً متّجهين الى ساحة المعركة يقفون جانب الطريق، يلقون نظرةً تفقّدية على آلياتهم قبل إكمال المشوار، يمرّ مواطنون يلقون عليهم التحية منادين: «الله يحميكم يا وطن”.

من بعلبك الى رأس بعلبك طريق سهلة واسعة، تضربها نسماتُ الهواء الساخنة فتلوي رؤوس الأشجار المزروعة حديثاً والتي تتوق الى «شربة» ماء. وفي موازاة هذه الطريق، طريق من نوع آخر في الجرود لكنها مليئة بالألغام والأفخاخ، فأهالي رأس بعلبك يزرعون الشجر والخَضار فيما هؤلاء الإرهابيّون يزرعون السوادَ والظلامَ وينشرون لغة القتل والإجرام التي لا تُخيف أهلَ البلدة.

الأجراسُ والتراتيل

تستفيق رأسُ بعلبك على صوت أجراس الكنائس وترتيلة «يا أمّ الله» التي تصدح من المنازل، وبين مراكز الجيش في البلدة وعلى التلال، تمرّ بزواريبَ ضيّقة لا تتّسع لأكثر من سيارة، وعلى حدّ قول أحد المواطنين فإنّ هذه الطرقات لها فعل خير، «فإذا هجمت «داعش» لا سمح الله على البلدة فإنها تضيع فيها، ونستطيع الإنقضاض عليها، مع أنّ هذا الأمر مستحيل، فأرضنا لا يدوسُها أحد».

“صبحيّة الضيعة”

تبدو الحياةُ أكثر من طبيعية في الرأس، فالدكاكين الصغيرة تفتح أبوابها منذ الصباح الباكر، والمواطنون يتسوّقون قبل الذهاب الى أشغالهم أو الى السهل، وبالطبع يحتلّ الدخان الرقم الأول في المبيعات، فيما أصوات النسوة ترتفع في الأحياء: «طلَعو تنعمل صبحيّة، الدنيا بألف خير»، في حين تمرّ آليات الجيش في البلدة زارعةً الطمأنينة في النفوس. وتعمل ورش صيانة الكهرباء على تبديل الخطوط وإصلاح الأعطال «لأنّ الصيفَ حارّ ولا يمكن العيش بلا مكيفات وتحمّل إنقطاع الكهرباء».

الواقع العسكري

ينام أهالي رأس بعلبك ويصحون على أصوات القصف المتواصل، ويتردّد صدى الصواريخ والقذائف بين المنازل التي تتحصّن بالإيمان بالأرض والبقاء فيها، ويُعتبر جرد الرأس من أكبر جرود لبنان، تبلغ مساحة الأرض التي ستدور فيها المعركة نحو 80 كلم، ويتوزّع المسلّحون على مراكز عدّة، بعضها يقع تحت مرمى نيران الجيش، والبعض الآخر في مرتفعات يضربها الجيش بالمدفعية وراجمات الصواريخ والطيران.

ويؤكّد الأهالي أنّهم مطمئنّون الى قيادة الجيش التي أبلغتهم أنّ إمكانية خرق «داعش» لخطوط الدفاع الأمامية باتت شبه مستحيلة لأنّ الجيش اتّخذ تدابير عدّة وسيعتمد تغطيةً ناريةً كثيفةً وهائلة.

ويشدّد الجيش على أنّه سيختار نوعيّة الأسلحة التي تناسب طبيعة المعركة وتطوّرها، إذ لا يُستبعد أن يتمّ رمي قذائف كبيرة الحجم من الطائرات مثلما فعل في حرب البارد، علماً أنه يملك سلاحاً متطوّراً قادراً على إصابة الهدف بدقّة.

البناء

 

لا يزال الجيش يستعدّ للمعركة، وقد حشَد أكثرَ من 10 آلاف عسكري من كل الألوية للمعركة، في وقتٍ، التقاريرُ الإستخبارية تتحدّث عن نحو 800 مقاتل داعشي يتوزّعون بين جرود الفاكهة ورأس بعلبك والقاع، لكنّ كلّ هذا الضجيج لا يؤثّر في معنويات الأهالي، والمشهد الأكثر طمأنينة هو مشهد مطران بعلبك للكاثوليك وإبن الرأس الياس رحّال، ونحن إلتقيناه في منزله القريب من التلال صباحاً، فالورشة ما زالت قائمة ويشرف عليها شخصياً، الرمل وأكياس الباطون موجودة، وعندما مازحناه بأنك تبني بينما «داعش» قادمة، ردّ بنبرة حازِمة: «لا تستطيع أيُّ قوّة في العالم إقتلاعنا من أرضنا، مرّ علينا دواعش كثر وهزمناهم، فرأس بعلبك والقاع هما سياج الوطن عموماً وسياج المناطق المسيحية خصوصاً، وإذا سقطتا، فإنّ جبل لبنان ومسيحيّي الشمال يسقطون، نحن نقاتل عن الجميع، ونقف خلف الجيش وإذا احتاجنا فأنا ساكون أوّل واحد أسانده، لأنّ رهاننا الوحيد على الدولة، والمسيحيون معه».

لا «سرايا مقاومة»

موقفُ المطران من الجيش يكرّره جميع أبناء البلدة، فهم لا يريدون أيَّ قوّة أخرى، ويهزأون من مقولة وجود «سرايا مقاومة»، مستغربين: «عن أيّ سرايا مقاومة تتحدّثون، فنحن مسيحيّون ووُلِدنا وتعلّمنا المقاومة، وصمدنا في أرضنا، هناك بعض الأشخاص الذين لا يقومون بأيّ دور وينتمون الى السرايا، بينما يسهر شباب البلدة من كل الإتجاهات السياسية ليلاً منعاً لتسلّل الغرباء، وهذا لا دخل له بالسرايا أو بـ»حزب الله»، فوجود الجيش بهذه الكثافة غير المسبوقة لا يترك مجالأ لأحد بأن يقوم بدورٍ مسلّح».

 

… ونساءٌ مقاوِمات

في كلّ الحروب يقود الرجال المعركة، بينما في رأس بعلبك للنساء أدوار متعدّدة. فهنّ مشغولات بالمؤن والكشك، يتجمّعن كورش تساند بعضها، السطوح ممتلئة بالمونة البيضاء، منهنّ مَن أنهين عملهن وبعضهن ما زلن يحضّرن العدّة، لكنّ الأكيد أنّ الخوف لا يتسلّل الى نفوسهن، وتقول إحدى النسوة: «لا مشكلة عندنا بقدوم «داعش»، عندها، وبدل أن نفرك الكشك، نفرك رقابَ الداعشيين الذين سيدوسون في بلدتنا التي هي أرض المسيحية وأرض الربّ».

تُجمع النساء على انّهن حاضرات لحمل السلاح «متى نادانا الجيش، وعندما تقع الحاجة، لا فرق بين رجل وإمرأة، نضع الصليب في رقابنا ونقاوم»، و«ألم تروا نساءَ القاع كيف حملن البواريد، ونحن كذلك، ننام على السطوح ولا نخاف، نتابع موسمَ الكشك والمونة وفي الوقت نفسه عيوننا على الجرود، وعند حصول أيّ خلل، نسحب الرشاش من تحت الفراش ونبدأ بالقتال».

لا نازحين

ومن النقاط التي تريح البلدة أكثر هي عدم تواجد نازحين سوريين، فقبل إندلاع الحرب السورية كان هناك عمال، وبعد الحرب زاد العددُ قليلاً، لكنه بقي محدوداً جدّاً. وبعكس جارتيها عرسال والقاع، فإنّ خطر تسلّل الجماعات الإرهابية الى داخل المخيمات غيرُ وارد لأنه بالأساس لا وجود للمخيمات، وهذا الأمر قد يكون ظاهرة لأنّ النزوح غزا معظم بلدات لبنان.

حبّ الحياة والعمل

وبين واقع الجرود والهمّ المعيشي، يصمد أبناءُ البلدة، وهم الذين عانوا تاريخياً من الجغرافيا، ففي هذه البلدة بقي المسيحيون في أرضهم، وهم في معظمهم موظفون إما في التعليم حيث يوجد أكثر من 120 أستاذاً ومعلمةً في مدارس المنطقة إضافة الى إدارات الدولة، والتطوّع في الجيش. وتشدّد فاعليات المنطقة على أنه كما أنّ القبيات وعندقت تُعتبران العصبَ الماروني في الجيش، كذلك فإنّ القاع ورأس بعلبك هما العصب الكاثوليكي، وهذا يؤدّي الى التمسّك بمؤسسات الدولة.

يبلغ عدد القاطنين الدائمين في الرأس نحو 4000 مواطن شتاءً ويزداد صيفاً، لكنّ هناك مشكلةً يعاني منها قسم من المزارعين، فهناك السهل الشرقي الذي يقع في الجرود وكان يُزرع بالقمح ويملك أبناء البلدة صكوكاً فيه، سيطر عليه بعض أهالي عرسال قبل أن يصبح منطقةً عسكرية بعد دخول التنظيمات الإرهابية، في حين أنّ السهل الغربي بات تحت سيطرة قوى الأمر الواقع وبعض أهالي الهرمل، ويطالب أهالي رأس بعلبك باسترداده.

المهرجانات

يرغب قسمٌ من الأهالي بالتسوية ورحيل «داعش» وإلّا المعركة مقبلة، وفي الوقت نفسه يؤكدون تمسّكَهم بمسيحيّتهم وبوجودهم. ويصرّ المطران رحال على بناء أكبر كنيسة في المنطقة لمار الياس، في حين أنه يتمّ التحضيرُ لاحتفالية عيد السيدة في كنيسة سيدة رأس بعلبك العجائبية، وستشهد البلدةُ نزوحاً معاكِساً بدءاً من اليوم، حيث سيحيون العيد غيرَ آبهين لـ«داعش» والإرهاب.

 

وتتريّث البلدة في إطلاق المهرجانات الفنية بعدما تحدّثت مع فنانين من الصف الأول، لجلاء الصورة العسكرية، في حين أنهم أقاموا قداساً تكريماً لشهداء الجيش الذين سقطوا في معركة استرجاع التلال من «داعش»، ويحضّرون لاحتفال تكريمي أكبر العامَ المقبل لجميع شهداء البلدة منذ العام 1975 الذين استشهدوا في كل الأسلاك العسكرية والأمنية اضافة الى الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الوطن.

البُنى المفقودة

وأمام هذا الواقع والكلام عن الحرب، تعاني الرأس من نواقص عدّة في البُنى التحتية، ومن خلال جولتنا، إكتشفنا أنّ مركز الدفاع المدني فيه عنصر واحد هو رئيس المركز، وقد فرزت البلدية عنصراً من عندها ليسانده في مهماته، فعندما يقع حريق أو أيّ أمر طارئ يساندهم شباب البلدة، وهذا الأمر يجب أن تتنبّه له الدولة خصوصاً أنّ البلاد مقبلةٌ على معركة وأيّ قذيفة أو صاروخ ممكن أن يُحدث حريقاً ما يستدعي تعزيزاً لعناصر الدفاع المدني. ومن جهة أخرى فقد بنى الأميركيون مستشفى في البلدة وإنتهى العمل فيها عام 2014، لكنه حتى وقتنا هذا ما زال فارغاً ولم يباشَر العملُ فيه.

وفي السياق، يكشف رئيس بلدية الرأس دريد رحال لـ«الجمهورية» أنّ المستشفى باتت في عهدة الجيش منذ الـ2014 وحتى الآن لا سرير فيها، نحن نعرف أنّ ميزانية الجيش غير كافية، من هنا نحمّل الدولة مسؤولية تشغيلها، وهذا الأمر يجعلنا نغضب عليها، فكلفة تشغيل المستشفى والبنى التحتية المطلوبة لا توازي نسبةً ضئيلة من مشروع معيّن، وهذا يدفعنا الى مطالبة الدولة بالقيام بواجباتها».

ويشدّد رحال على أنّ «رأس بعلبك تحت حماية الجيش ولا نريد أيّ سلاح آخر، ونحن خزان القوى المسلّحة، والوجود الكثيف للجيش يجعلنا نطمئن»، مؤكداً «أنّ الحياة تسير طبيعية، والبلدية تُكمل عملها، ولا خوف من أيّ شيء، ونحن نؤمن بالدولة»، لافتاً الى «عدم وجود ملاجئ». ويشير الى أنّ «رأس بعلبك على علاقة وطيدة مع الجوار وكانت تلعب دور المصلح، لكن مَن يحاول الإقتراب منها سيواجه بشراسة مهما يكن».

من اليسار الى اليمين

تدلّ النبرة العالية للأهالي على ثقة عالية بالنفس، وإيمان بأهمية الحفاظ على الوجود وإلّا تصبح المنطقة من لون واحد. وفي سياق تعليقه على مجريات الأمور يؤكد المطران رحال أنّ «الطابعَ الغالب على البلدة قديماً كان اليسار وتحديداً الشيوعي، وأنا شخصياً كنت داعماً للقضية الفلسطينية وقد واجهت الإحتلال عندما كنت في القدس، لكن الآن لا شيء سوى الجيش اللبناني يحمينا»، ويقول: «نحن المسيحيون، وُلدنا وسنبقى هنا، في الحرب لم نغادر، والآن لا الدواعش ولا الفلتان سيجعلانا نهرب، وعلى جميع المسيحيين أن يتمثّلوا بنا، في السابق كان لدينا زعماء مسيحيون كبار، وأنا شخصياً معجب بالرئيس كميل شمعون الذي لم يأتِ زعيم من بعده، فهو رمزٌ لا يتكرّر».

مع التطوّر السياسي، تحتفظ رأس بعلبك بالتنوّع الحزبي، لكنها اتّجهت من أحزاب اليسار الى اليمين، حيث أصبح الغالب أحزاب «القوات» و«التيار الوطني الحرّ» والكتائب. وهذا التنوّع يصبح لوناً واحداً عندما يهدّد الخطر البلدة.