كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:
بعد وصول الرئيس دونالد ترامب الى البيت الأبيض وبروز مجموعات معارِضة له، كان السؤال السائد في الأوساط الأميركية: «الى أيّ مدى تستطيع هذه المجموعات المعارِضة الاستمرار في مواقفها؟».لكن، ومع تطوّر الأوضاع، بات السؤال المطروح الآن وبمقدار كبير: «الى أيّ مدى يستطيع ترامب الصّمود والمحافظة على موقعه؟».
ذلك أنّ المجموعات التي كانت تُعارض رئاسة ترامب للبلاد، نجَحَت في تنظيم نفسها وفي توسيع دائرتها، خصوصاً أنّ مؤسّساتٍ كبيرة كانت متعاوِنة معها، في مقابل ارتباك وتفكّك للحلقة المحيطة بترامب.
وأن تدهم الـF.B.I منزل المدير السابق لحملة ترامب الإنتخابية وتُصادر وثائق وملفات، فهذا يَعني الاقتراب كثيراً من ترامب وفي إشارة تهديد هي الأقوى للرئيس الأميركي.
ولذلك بدأت الحلقة القريبة من ترامب بوضع خُطط بديلة من دون إطلاع ترامب نفسه عليها، مثل ما نُقل عن وجود نيّة لنائب الرئيس مايك بنس للترشح هو بدل ترامب إلى الإنتخابات الرئاسية المقبلة، أو ربّما تحضّره ليتولّى هو مقاليد الرئاسة في حال خروج ترامب من البيت الابيض قبل إنهاء ولايته. وجاء نفي بنس السريع لما نُشر بمثابة التأكيد.
أما أكثر ما لفت، فجاء على لسان النائب السابق لرئيس مكتب التحقيقات الفدرالي F.B.I فيل مود عبر شبكة الـ CNN حين قال إنّ ترامب ومن خلال سياسته «يدفع بالحكومة وجهاز المخابرات المركزية CIA الى إسقاطه»، مضيفاً «أنّ الحكومة الاميركية ستقتل ترامب».
وعلى رغم هذا الكلام القوي والصادم لمسؤول شغل منصباً أمنياً رسمياً كبيراً، إلّا أنّ للرئيس الاميركي قاعدةً قوية لا يزال يستند اليها ولو أنها تقلّصت بعض الشيء.
فالنسبة التي لا تزال ثابتة في تأييده، صحيح أنها تدنّت لتصل الى 33 في المئة، لكنها تضمّ في الغالب المتطرّفين البيض وأبناء الأرياف المستعدين للتحرّك في الشارع وربما للقتال، طبعاً إضافة الى قطاعات الصناعة العسكرية والضباط الكبار في الجيش، وجاءت مواجهات فرجينيا لتُثبت ذلك.
والأهمّ أنّ ترامب المحاصَر داخلياً، بدأ تصنيفُه كأضعف رئيس للولايات المتحدة الاميركية بخلاف الصورة التي يُريد رسمها لنفسه من خلال خطاباته القوية ومواقفه التي تقارب التهوّر، والذين يُصنّفونه رئيساً ضعيفاً يعتبرون أنّ ترامب لم يستطع إمرار أيّ قانون لمصلحته طوال الأشهر الماضية، وعلى رأسها قانون الرعاية الصحية على أنقاض «أوباما كير»، رغم أنه في السنة الأولى لولايته وفي ظل غالبية جمهورية داخل الكونغرس، وبالتالي إذا عجز عن ذلك الآن، فماذا سيفعل كلّما تقدّم في ولايته، وفي حال خسارة الجمهوريّين الغالبية في الانتخابات النصفية بعد أكثر من سنة؟
ترامب يختنق في الداخل، ويجهد للتعويض خارجياً، وهو ما لا يبدو متوافراً في ظلّ معارضة داخل إدارته من المثلث ماتيس – تيلرسون – ماكماستر، أي من وزيرَي الدفاع والخارجية ومستشار الأمن القومي.
وأبرز مثال على ذلك، أزمة كوريا الشمالية التي تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الأميركي. فببساطة مطلقة حاول التعويض عن الفشل في حلّ أزمة الصواريخ بإطلاق مواقف تهديدية حادّة، لكنّ القوى الدولية الكبرى مثل الصين وروسيا تدرك جيداً محدودية الخيارات الأميركية، ما جعل تهديدات ترامب ذا تأثير عكسي.
قبل ذلك، تروي مصادر ديبلوماسية أنّ ترامب حاول حلّ المسألة عبر محاولة «إغراء» الرئيس الصيني بخفض القيود الجمركية على بعض المنتجات الصينية المستوردة، في مقابل مساعدة واشنطن في حلّ الأزمة. ويُروى أنّ الديبلوماسيّين سخروا كثيراً من عدم فقه ترامب بالسياسات الدولية ومحاولته حلّ أزمة معقّدة ومتشعّبة بذهنية رجل الأعمال.
في النهاية، سيفشل ترامب في إبهار الأميركيين بحلٍّ سحريّ في كوريا الشمالية، وسيخضع مجدداً لنصائح رجال إدارته، ويفتح باب المفاوضات الواسع مع بكين وموسكو، ذلك أنه لا يمكن إدارة السياسة الدولية وفق منطق «البيزنس العائلي» كما فعل في السعودية.
ففي الشرق الأوسط لا تبدو الأمور أفضل رغم استماتة ترامب لانتصار، ولو شكلي، لاستثماره داخلياً. صحيح أنّه حاول جدّياً المَسّ بالاتفاق النووي مع إيران، لكنّ رجال إدارته خصوصاً الثلاثي ماتيس- تيلرسون – ماكماستر عارضوا بشدة أيّ خطوة متهوّرة في هذا المجال كونها تعرّض المصالح الأميركية للخطر.
وكان لافتاً على سبيل المثال أن يكتب ديفيد كوهين في صحيفة «جويش تلغرافيك إيجنسي»، محذّراً ترامب من حقبة المساس بالاتفاق النووي، وكوهين هو أرفع شخصية يهودية أميركية سمح لها بتولّي مناصب كبيرة في جهاز الـCIA، ليصبح بعدها وكيل وزارة الخزانة الاميركية لشؤون الاستخبارات والتحليل.
وبات ثابتاً الآن في واشنطن أنّ ترامب لن يُقدم على أيّ خطوة متهوّرة تطاول صلب الاتفاق النووي، ولو أنه لا يزال يبحث عن قنبلة صوتية تسمح له بدغدغة الشارع الأميركي من دون المَسّ بالمصالح الأميركية.
ففيما باشرت واشنطن تقليص حضورها العسكري في افغانستان، في مقابل استقدام شركات عسكرية وأمنية أميركية خاصة للتنصّل من أيّ مسؤولية رسمية لاحقاً، فهي شجّعت في موازاة ذلك السعودية وباكستان على الانخراط أكثر في هذا البلد، ذلك أنّ نظام الحكم الأفغاني يتهاوى في مقابل توسيع نفوذ حركة «طالبان».
والأهم نجاح إيران في الإمساك ببعض أوراق «طالبان»، إضافة الى مجموعات أفغانية أخرى استباقاً لأيّ مسعى للضغط على إيران من حدودها الشرقية.
كذلك، نجحت إيران في تأمين ركيزة ثابتة قوية لها في شبه الجزيرة العربية، هي قطر بعد اليمن، فشكلت قطر متنفَّساً اقتصادياً مهماً جداً لإيران، في ظلّ تنسيق إيراني – تركي على فتح مسار بَرّي عبر إيران لتصدير السلع، ما سمح لقطر بالتحوّل من الدفاع الى الهجوم متكِئة على الحلف المستجدّ مع طهران وأنقرة.
وحتى الصفقة الرياضية بانتقال اللاعب البرازيلي نيمار الى فريق «باريس سان جيرمان» المملوك من قطر جاء بخلفيّة تلميع صورة قطر الدولية وحماية دورها في استضافة كأس العام 2022.
وإيران نجحت في العراق وفي تأمين ممرّاتها البرّية في سوريا بعد التفاهم الذي طاول جنوب سوريا، وباتت الطريق الى جنوب لبنان مفتوحة بقوة الأمر الواقع. وواشنطن التي تبدو مرغمة على قبول هذا الدور الإيراني الواسع الجديد، تحاول إبقاء أوراق التشويش موجودة. مرة عبر الضغط اقتصادياً وسياسياً على «حزب الله» في لبنان، ومرة أخرى عبر إثارة الاكراد حتى في الداخل الإيراني.
وكان لافتاً حديث قائد حرس الحدود الايراني العميد قاسم رضائي عن تفعيل نشاط الجماعات الكردية المسلّحة قرب الحدود مع تركيا، والعثور على ثلاثين من الخيول والبغال المحمّلة شحنات من الأسلحة والذخائر والعبوات الناسفة عبر الجبال والوديان. وتتّهم إيران المخابرات المركزية الأميركية برعاية هذا التسليح.
في المقابل، فعّلت طهران تنسيقاً أمنياً مع تركيا عبر رئيس المخابرات التركي حقّان فيدان يتمحور حول الاكراد ويطاول وجودهم ونشاطهم في سوريا والعراق وتركيا وإيران.
وبدت وعود المخابرات الأميركية للأكراد بإنشاء دولتهم المستقلة غير قابلة للتطبيق، حيث سيتولّى التنسيق الايراني – التركي مهمة إجهاض هذه الفكرة ولكن بعد إنجاز الاكراد مهمة مقاتلة «داعش» في سوريا. ربما المسموح لاحقاً إعطاء مناطق حكم ذاتي بصلاحيات محدودة لا أكثر.
في اختصار التوازنات الإقليمية الجديدة بدأت تتشكّل بين هلال شيعي عريض ولكن غير مستقر في عدد من جيوبه، وبين محور سنّي من الأردن الى شبه الجزيرة العربية غير مستقرّ أيضاً من خلال عدد من جيوبه وجبهاته. وفي المناسبة فإنّ لبنان هو أحد الجيوب غير المستقرة للهلال الشيعي، إلّا إذا أحسنّا القراءة وخفّفنا من آلامنا.