Site icon IMLebanon

مزمور حزين مُتتابِع ماضياً وحاضراً ومستقبلاً (بقلم الدكتور جورج شبلي)

 

كتب الدكتور جورج شبلي:

لم تكن الصّدمة هائلة حين استعرض بعضهم فائض قوتّه، ليبعث برسائل الى أكثر من جهة. لست أهتمّ، في هذا المجال، بالمُرسَل إليهم بقدر ما لَفَتَني مضمون الرسالة في خَطَره على الوطن. لقد دحض المُستَعرِضون عَلناً مفهوم الكيان ذي السّيادة، فردّنا ذلك الى ما أشار إليه علماء الأنتروبولوجيا السياسية من أنّ الكيانات تنقسم الى ما قبل الدولة والى ما بعدها، أي أنّ بعض التجمّعات البشريّة لم تستكمل أسس الدولة بالمفهوم الحديث، أو أنّها لم تصمد أمام التعريف الدّقيق للدولة. وبدا لنا أنّ ما يسمّى الدولة النّظام في لبنان، في عِرف المُستَعرِضين، هو باطل يتستّر بالحقّ. فأصبحنا، بالتالي، مشوّشين على مستوى التّحديدات، وبحاجة الى معجم سياسي جديد يعيد إنتاج دلالات لكثير من المصطلحات السياسية المتداولة في المجتمعات الرّاقية .

إذا كان النّظام يعني الهيبة والحضور والقانون، فإنّ الرّهان على سيادته قد استفزّه المستعرِضون بفائض من الفوضى، وأصدروا بيان نعي له تدنّت أمامه كرامة السلطة التي فشلت سابقاً في إجراء جراحة تجميليّة لتخاذلها وعقمها. وقد عجزت الحكومات المتعاقبة عن عدم الذّوبان في زمن الهمجيّة، فتحوّل مسؤولوها الى شيوخ صلح ، ولكن بحالٍ رخوة غير منتجة أو مسموعة ، ما جعلنا نقوم برحلة إستكشافيّة علّنا نعثر على شيء من كرامتهم ، فلم نجد لذلك أثرا.

ما شاهدناه في وسائل الإعلام من استعراض يهدف الى التَّخويف، ليس مادة مسلّية ، بقدر ما كان دراما وطنيّة أو حقل ألغام مفخّخ لكلّ نقلة من عصر القبليّة للولوج الى مرحلة الدولة . ما شاهدناه كان رسما كاريكاتوريا لزمن الغزوات، حتى لتظننّ أنّ موقعة صفيّن أو مرج دابق على الأبواب.

إنّ مرحلة ما قبل الدولة، غير المأسوف على شبابها أساسا، والتي استعيدت بأبهى حللها، هي وصمة عار شوّهت مُحيّا  المدنيّة، ولم يكن لنا سوى أن نتوجّه بالتحيّة لهولاكو الذي أحرق بغداد وتراثها الثّقافي، ليقضي على دولة العبّاسيّين، أو ليوليوس قيصر الذي أحرق مكتبة الإسكندريّة وما تحويه من أمّهات الكتب، ليقضي على الأسطول المصري الموجود في مينائها آنذاك. الفارق أنّ همجيّة القادة الأقدمين دوّنها المؤرّخون ضمن إطار له ظروفه التبريريّة وأسبابه التخفيفيّة، في حين أنّ التاريخ الحديث لن ينسى أنّ ما جُعِلنا نراه هو لوثة  زمن رديء، ونَحرٌ لسيادة القانون، وتَحدٍّ  لملح الأرض، وتكريسٌ لفوضى مسلّحة، وانهيارٌ لموسّسات النّظام التي تخلّت سابقاً عن دورها الوظيفي في حفظ الأمن ومواجهة الإستقواء. وهذا يشكّل سلوكا مدمِّرا لدولة القانون،  ومشكلة نوعيّة لمفهوم الحريّة والديمقراطيّة، وإعطاء صكوك “وطنيّة” للمستعرِضين الذين يحتكمون الى  قانون القوة بدلا من قوّة القانون، والى سيادة السّلاح بدلا من سلاح السّيادة، والذين يصادرون قرار الوطن تحت مسمّيات وذرائع يجب ألاّ تكون مقبولة .

مهما كانت قراءة الإستعراض متفاوتة بين نظرة وأخرى، غير أنّه ما من مجال للشكّ في أنّ ما وراءها هو غير بريء. إنّه نوع من فرط القوّة التي تبحث عن ترسيخ أبديّ لهيمنتها، وفرض أيديولوجيّة ساديّة  تقول بأنّها لن تزول، وهو رسالة ” أخويّة ” لتظهير مشهد لا يزال في دائرة النار. ويبقى الطلب المُلِحّ : متى نبدأ بإعادة إعمار كرامتنا الوطنية؟