كتب ناصر شرارة في “الجمهورية”
منذ زيارة ميخائيل بوغدانوف إلى الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله عشية إعلان الأخير تَدخُّلَ «الحزب» عسكرياً في سوريا عام 2013، بدأت شبكة العلاقة بين الروس وحارة حريك تُخاط على منوالٍ بطيء، وتمتاز بكثير من إبداء الصبر من جانب الحزب، على ما تقول مصادر مطّلعة على هذا الملف.في هذا اللقاء الذي تمَّ التكتّم على نتائجه، تسرَّبت معلومات مفادُها أنّ بوغدانوف أكّد خلاله تأييدَ موسكو لتدخّلِ الحزب في سوريا للمساهمة في تحصين موقع الأسد داخل ميدان النزاع الذي كان محتدماً آنذاك إقليمياً وداخلياً ودولياً.
تَحفَّظ محمد حسنين هيكل الذي زار نصرالله بعد عامين من تدخّلِ الحزب في سوريا، عن قول الأخير أمامه إنّ الحزب ساهمَ بشيء متواضع في حماية سوريا، وقال هيكل «إنّ تَدخُّلَ الحزبِ كان له الموقع المركزي داخل استراتيجية منعِ إسقاطِ نظام الأسد».
وفي نظر هيكل، بحسب محادثية في بيروت آنذاك، أنّ نصرالله أدّى الدور الأهمّ في حماية النظام، عبر نجاحه في ربح معركة منطقة حمص (القصير)، التي كانت توجد فيها النواة الصلبة لـ»الجيش السوري الحر» المراهن عليها حينها دولياً وإقليمياً أن ينطلقَ منها مسار تَشكّلِ بناء «الجيش الوطني السوري المعتدل البديل للجيش السوري.
كانت الخطة أن تتوسّع هذا النواة المتمركزة في منطقة حمص لتضمّ 7500 ضابط انشقّوا عن الجيش السوري موجودين في مناطق سوريّة مختلفة. ولكن بعد هزيمة تشكيلات النواة الصلبة لـ«الجيش الحر» في منطقة حمص، تَشتَّت مشروع لملمةِ حبّات عقدِ الضبّاط السوريين المنشقّين، وكردّةِ فعلٍ منهم على تقصير قيادتَي «هيئة الإنقاذ الوطني» ومجلس أركانها العسكري بدعمِ مقاتِلي المعارضة في منطقة حمص، توزَّع هؤلاء الضبّاط ومجموعاتهم التي كانت لا تزال شكليّة حينَها، بين «داعش» و«النصرة» وقوى إسلامية أخرى توصَف جميعُها بالتطرّف.
وقاد هذا التحوّل إلى تقديم قراءة استراتيجية جديدة للميدان السوري، وهي أنه أصبَح موزّعاً بين قوّتَين أساسيتَين: التكفيريون وقوامُهم «داعش» و«النصرة» وما بينهما من جماعات أخرى سوريّة وأجنبية، وذلك في مقابل النظام وحلفائه وعلى رأسهم «حزب الله». فيما أصبحت مساحة قوى المعارضة المسلّحة المعتدلة في ميدان سوريا، شِبه خاوية.
بعد ذلك دخَل الروس إلى الميدان السوري، وفي مقدّمِ أولوياتهم ضربُ «النصرة» التي كان عرّابوها قد قاموا بمحاولات لإقناع واشنطن بأنّها ذات خصوصية جهادية سوريّة وليس عالمية. وطالَ النقاش بين واشنطن وموسكو قبل أن تقتنعَ الأولى بضمِّ «النصرة» للائحة الإرهاب.
خلال إعلانه أوّلَ أمس بدءَ تشغيلِ مركز الأردن لمراقبة اتّفاقية خفضِ التوتّر في جنوب غرب سوريا، كان لافتاً وصفُ وزير الدفاع السوري هذا التطوّرَ، بأنّه يعني «نهاية الحرب الأهلية» في سوريا.
وبحسب مصادر روسيّة، فإنّ موسكو تعتبر وصولها لنقطة تدشين مسار مراقبة مشتركة مع أميركا لمناطق خفضِ التوتّر، بمثابة تحقيقٍ لهدفها الاستراتيجي الثالث في سوريا.
وكانت روسيا، قبل ذلك، قد ساهمت بنحوٍ غيرِ مباشر عام 2013 عبر زيارة بوغدانوف لِـ نصرالله بتحقيق الهدف الأوّل المتمثّل بضربِ مشروع إنشاء «الجيش السوري المعتدل» البديل للجيش السوري. ثمّ لاحقاً ساهمت مباشرةً بعد تدخّلِها العسكري بتحقيق الهدف الثاني، ونجاحها أخيراً بإضافة «جبهة النصرة» إلى قائمة الإرهاب الدولية.
أمّا الهدف الثالث الحالي فيتمثّل بإنتاج ثلاث مناطق خفضِ توتّر في «وسط سوريا» وفي «جنوب غرب سوريا» وفي «غوطة دمشق الشرقية».
ومن وجهةِ نظر روسيا، تعني إقامة مناطق خفضِ التوتّر الثلاث الآنفة، تعديلاً استراتيجياً لواقع الميدان السوري، وذلك لمصلحة إنهاءِ أعمال القتال بين الجيش السوري وبقايا «الجيش السوري الحر»، وجعلِ ميدانِ قتال الجيش السوري في كلّ سوريا محصوراً فقط في المناطق التي توجد فيها «النصرة» و»داعش»، أي على جبهات يتوافر لها الغطاء دولياً.
ومثلما أخرَجت معركة القصير، مشروع «الجيش البديل» للجيش السوري من معادلة الميدان السوري العسكري والسياسي، فإنّ بدءَ تطبيقِ مناطق خفضِ التوتّر الثلاث، والمعتبَرة «منطقة جنوب غرب سوريا» نموذجاً لها، أفرَغت الميدان العسكري السوري من أيّ تعبير قتالي يوحي بأنّ ما يجري فيه هو حربٌ أهليّة بين النظام ومعارضيه السوريين، ليصبحَ للميدان الحاليّ قراءةٌ دولية واحدة، وهو أنّه حربٌ من قبَل النظام والدوليين ضدّ الإرهاب في سوريا.
تُواجه موسكو ضمن مرحلة الانتقال لإفراغ الأزمة السورية من التعبيرات التي تشي بأنّها حرب أهلية، اعتراضاً من تل أبيب التي تَعتبر أنّ اتّفاق روسيا – أميركا حول منطقة خفضِ التوتّر في جنوب سوريا لم يحتوِ على ضمانات لأمن إسرائيل.
وبحسب معلومات خاصة بـ»الجمهورية»، فإنّ لقاء نتيناهو ـ بوتين للبحث في هذه القضية، أفضى إلى تحفّظِ موسكو على وجهة النظر الاسرائيلية التي تَعتبر أنّ اتّفاق جنوب سوريا «يؤسّس لإقامةٍ إيرانية استراتيجية طويلة» في سوريا تُهدّد أمنَ إسرائيل، وأنّ المطلوب إخراج «حزب الله» وإيران من سوريا وحتماً بدءاً من منطقة الحدود السورية مع الأردن وإسرائيل.
لقد طرَحت روسيا وجهة نظرِها من الزاويا الآتية:
ـ أوّلاً، لا ترى موسكو أنّ «حزب الله» منظمة إرهابية، حيث إنّ تاريخ الحرب بينه وبين إسرائيل لم يسجّل أنّه قام لمرّة واحدة بمهاجمة الداخل الاسرائيلي، بل كلّ المواجهات الاسرائيلية معه جرت على الارض اللبنانية.
ـ ثانياً، تَعتبر موسكو أنّ مبعث مطالِب إسرائيل نَيل ضمانات في سوريا، لا ينطلق من قلقها من الخطر الإيراني و»حزب الله» عليها، بل من حقيقة انّ اسرائيل تواجه مشكلة عدم تكيُّفِها مع لحظة ولادة سوريا الجديدة، ذلك انّ تل ابيب تشعر بفشل رهانِها على تشغيل «النصرة « كيسَ رملٍ على حدودها في القنيطرة، وأيضاً فشَلِ رهانِها على الاستثمار في دعم الاكراد في شمال سوريا، الذين لم يتلقّوا الدعم فقط من اميركا بل من نتنياهو أيضاً.
ـ ثالثاً، ترى موسكو أنّ الضمانات لمقترح إقامة مناطق خفض التوتّر في المناطق الثلاث، وخصوصاً في جنوب سوريا، متوافرة في دور قوّةِ الفصل بين تماسات النظام والمعارضة وأيضاً في انتشارها على خطٍ يقع بين شمال هذه المنطقة حيث توجَد المعارضة وامتداداً إلى الحدود السورية مع الأردن وإسرائيل، وبين غربها حيث النظام وحلفاؤه.
وضمن هذه الجزئية توضِح المصادر عينُها أنّ التفاوض على تشكيل مركز عمان لمراقبة هدنة جنوب – غرب سوريا، أنجز ضمانات من النظام السوري للأردن بأنه سيُعيد الأوضاع على طرفي حدود البلدين الى الوضع الذي كان عليه قبل العام 2011، وأُعطيَت ضمانات لأميركا بأنّ الشرطة الروسية ستلعب ما يشبه دورَ «اليونيفيل» العازل بين الاشتباكات الإقليمية وامتداداتها في هذه المنطقة.