كتب جورج شاهين في “الجمهورية”: يبدو لبعض المراجع العسكرية والديبلوماسية انّ قيادة «داعش» في آخر جَيب لبناني لها اكتشفت باكراً صعوبة التعاطي مع الجيش اللبناني ما لم تقدّم معلوماتها عن مصير العسكريين الثمانية المخطوفين قبل عملية «فجر الجرود» وأثناءها وبعدها. ولم تسجّل اي مبادرة للتعاون، علماً أنها هي من طلبت المفاوضات مع الجيش اولاً. ولكن ما ثبت انّ تعاونها مع «حزب الله» والنظام السوري أمر وارد وله ما يبرره. فما الذي يعنيه ذلك؟
قبل أن تنتهي العملية التي نفذتها وحدات من «حزب الله» في تلال فليطة السورية وامتداداتها الى تلال عرسال، طرح أحد الوسطاء الجديين نيابة عن «داعش» مشروع تفاهم مسبق يؤدي الى انسحاب مقاتليه من الجيب المتبقّي لهم في جرود القاع ورأس بعلبك والفاكهة امتداداً الى الداخل السوري، وتحديداً الى مدينة «الميادين» التي يسيطر عليها «داعش الداخل».
يومها، لم يعترض الجانب اللبناني بل رَحّب بالفكرة، على رغم انشغاله في تلك الساعات بمفاوضات أدّت الى نقل ما تبقّى من مسلحي «جبهة النصرة» من جيب وادي حميد ومدينة الملاهي ومن رَغب من النازحين السوريين الى إدلب التي طلبها المسلحون، والى ايّ منطقة اختارها النازحون الآخرون.
واعتبر المفاوض اللبناني حينها أنّ المدخل الى هذه المفاوضات محصور بقضية واحدة تتصِل بمصير العسكريين المخطوفين الثمانية لدى «داعش» منذ ثلاث سنوات وثلاثة أسابيع.
وأضاف المفاوض اللبناني ببساطة كلية، إنّ اي جواب صادق وشفّاف من هذا النوع الذي يُنهي مأساة أهالي العسكريين المخطوفين سيفتح أوتوستراداً للتفاهم على بقية المراحل، ولن يكون هناك اي عائق امام ما يمكن ان تؤدي اليه المفاوضات.
فالنقاش يمكن ان يتناول كل ما من شأنه إتمام العملية من ضمن السقوف التي حدّدها ورسمها الجانب اللبناني في المفاوضات التي جرت مع «النصرة»، بما عكسته من خطوط حمر تتعلّق بعدم الافراج عن اي لبناني او سوري يمضي عقوبة في السجون بموجب أحكام قضائية او ممّن لجأوا الى مخيم عين الحلوة، وكل ما عدا ذلك يمكن البحث في مصيره.
عند هذه الوقائع، توقف أحد الخبراء العسكريين ليكشف ان هذه المفاوضات التي انطلقت يومها لم تتوقف الى الأمس القريب. وبقي الجانب اللبناني مصرّاً على موقفه بلا اي تعديل، وهو ما ادى بالوسيط مع «داعش» الى الاصرار على قيادتها للتجاوب مع الجانب اللبناني، وإلّا فإنّ العملية العسكرية واردة في اي لحظة يقرّر فيها الجانب اللبناني القيام بها.
وتمّ تكريس ذلك في الساعات التي تَلت «التحذير الأخير» للمسلحين قبل ساعات على «أمر العمليات» الذي أعطاه قائد الجيش العماد جوزف عون صباح السبت 19 آب الجاري مقدّماً قضية العسكريين المخطوفين على ما عداها من القضايا الخاضعة للتفاوض. فهو من قال حرفيّاً في تغريدة له بـ»اسم لبنان والعسكريين المختطفين ودماء الشهداء الأبرار، وباسم أبطال الجيش اللبناني العظيم، أطلق عملية «فجر الجرود».
قبل ثلاثة ايام على إطلاق العملية، وتحديداً في 16 آب الجاري، كان الجيش اللبناني قد قدّم بالمدفعية الموجهة بالليزر وبواسطة سلاح الجو أولى الرسائل الواضحة الى الدواعش بـ«عملية تمهيدية» نفّذت بعد ساعات على انتشار «فوج التدخل الأول» في مخيمات «النصرة» سابقاً، والتي أفرغت من النازحين في وادي حميد ومدينة الملاهي والتلال المحيطة بها. فكانت عملية تدميرية «صاعقة» بكلّ ما في الكلمة من معنى.
فقد دمّرت المدفعية الموجهة باللايزر مرابض مدفعيتهم ومراكز مراقبة وقيادية، وسدّت عليهم أبواب مغاور في مناطق بعيدة عن تلك التي باتت محكومة بالنار مباشرة بعدما انتشرت وحدات الجيش على عدد من التلال في منطقة تمتد على مساحة 16 كيلومتراً مربعاً.
ويضيف الخبير العسكري: «لا يمكن لمَن واكبَ عملية «فجر الجرود» إلّا ان يعترف بأهمية العمليات الإستباقية التي سبقت الهجوم البري، فقد كان سلاح المدفعية والطيران من أهم أسلحة الجيش في هذه المعركة باعتراف القادة الميدانيين وجميع الخبراء والملحقين العسكريين الذين واكبوا العملية بأدقّ تفاصيلها، وخصوصاً الجهات المانحة للأسلحة الفتاكة، الأميركية منها والبريطانية.
فإلى اعتبار انّ هذين السلاحين كانا الأكثر فاعلية في تدمير قدرات المسلحين القتالية وأسلحتهم الثقيلة، توقّف الأميركيون أمام استخدام آليّات الـ«UTV» الخفيفة المخصّصة لاجتياز الطرق الجبلية بأسلحة رشاشة وقاذفات القنابل، ما أدى الى تسجيل اعتراف اميركي ووعد بتصنيع مثيلات لها نظراً الى ما أثبتته من فاعلية وقدرة على الحركة وتلبية متطلبات اي مواجهة مباشرة».
وامام هذه الوقائع، ينتهي الخبير العسكري الى القول «انّ لتصرفات «داعش» السلبية وعدم تجاوبها مع مطلب المفاوض اللبناني بربطها إعطاء المعلومة المطلوبة في شأن مصير العسكريين المخطوفين بوصول مسلّحيها الى الرقة في الشمال السوري وتوجّهها الى التفاهم مع النظام السوري و«حزب الله»، ما يبرّره.
فالتجارب السابقة معهما أفضَت الى نتائج إيجابية بالنسبة الى «داعش» و«النصرة» وغيرهما من المنظمات الإرهابية. فقد سبق لهم أن أنجزوا سلسلة من التفاهمات أدّى بعضها الى اعلان مناطق خفض توتر آمنة.
وعزّز هذا الاعتقاد ما كشفه الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله في خطابه أمس الأول عندما تحدّث – بما معناه – عن استعداد الجانب السوري والحزب لخوض المفاوضات مع «داعش» على خلفية إعطاء قضية العسكريين اللبنانيين الأولوية، وهو ما أعطى الإنطباع المسبق عن إمكان اعطاء «داعش» كلمة السر في شأن العسكريين الى الجانب السوري او «حزب الله». فهل تفعلها «داعش»؟
وماذا سيكون عليه الوضع بعدما إشترط الجانب السوري والحزب على لبنان طلب التنسيق المسبق والعلني؟ وماذا ستكون تداعيات هذه الشروط ونتائجها على الداخل اللبناني متى وصلت الأمور الى هذه الدرجة التي أدخلت فيها قضية العسكريين المخطوفين بازار السعي الى الاعتراف اللبناني بالنظام السوري؟