كتب جورج عبيد قي صحيفة “الديار”: من حقّ المسيحيين المشارقة، فيما هذا المدى متجه نحو الحسم الميدانيّ، أن يتساءلوا عن مصير المطرانين بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم. فالجرح عميق وعميم والأنين مديد والإحساس المسيحي يعبّر عن مقهوريّة بليغة، لكون المسيحيّة المشرقيّة لا تزال مخطوفة مع الاخفاء القسريّ المتعمّد لمصيرهما.
ليس الوجود البيولوجيّ للمسيحيين في لبنان وسوريا همًّا لأنهم موجودون وقائمون على الرغم من محاولات الاقتلاع والتهميش هنا وثمّة الهمّ عند قوم عيسى أن ياتي التعبير متوافقا مع تكونّهم وتكوينهم لأنفسهم ولأرض ساهموا بإشعاعها وغير منفصل عن تاريخهم ومقصيّ عن الحاضر والمستقبل. لن يفهم الدول هذا الإحساس الجمعيّ، فالدول تتعامل وفقًا للمصالح تماما كما في القرن التاسع عشر حينما دخلت فرنسا هذه الديار من بوابة مصر، ظنّ بعضنا انها تأتي للحماية فإذ بها بدورها تأتي لكي تقيم معامل لإنتاج الحرير وما إلى ذلك. لا ينفي هذا الأمر بأنّ روسيا وبسبب من مسيحيّتها مهتمّة ومن ضمن مشروعها الاستراتيجيّ بالمحافظة على المسيحيين المشارقة وعلى الأقليّات من أجل التوازن في المنطقة وقد خبرت بأن التوازن بين المكوّنات رحم متين وطبيعيّ للاستقرار.
السؤال المقلق والخطير والذي لم يجب عليه أحد ولو من باب التحليل الاستباطيّ، لماذا خطف يوحنّا إبراهيم وبولس يازجي مطرانيّ حلب، وما هو السرّ الدفين خلف خطفهما؟ وإذا ساغ الإيغال فثمّة سؤال استطراديّ يتمّ طرحه في الأروقة، لماذا عدد كبير من المخطوفين قد تمّ الإفراج عنهم وقبل الإفراج كان مصيرهم معروفًا، وقد بدا التفاوض على أشدّه حتى تمتّ المقايضات المطلوبة سواء مع مخطوفي إعزاز أو راهبات معلولا أو آخرين؟
معظم من يتابعون الملفّ، يرون بأنّ الملفّ بحدّ ذاته معقّد وليس من جواب عليه محدّد. أمام هذه الأجوبة الصامتة والخرساء انطلقت مجموعة من المسيحيين بحملة على وسائل التواصل الاجتماعيّ تطالب بحريّة المطرانين. الكمال المنشود حريتهما، لكن قبل الحريّة يفترض من المعنيين أن يظهروا مصيرهما، أي على الأقل أن تتلقّى الكنيستان الأرثوذكسيّة والسريانية الأرثوذكسيّة أجوبة لم تتلقّاها حتى الآن لتطمئنّ القلوب وتهدأ النفوس. من يملك القدرة على الأجوبة ليست الجهة أو الجهات الخاطفة بل الجهات المفاوِضة والضاغطة، وإذا ما ظلّ الصمت المجهول مهيمنًا فإنّ أبرشيتي حلب في الكنيستين ستبقى شاغرة إلى أن يقضي الله امرا كان مفعولاً.
أمام هذا القلق الكبير والعاصف في آن وفي لحظة الاتجاه نحو الحسم الميدانيّ بين لبنان وسوريا، خرجت بعض النخب المسيحيّة بمجموعة رؤى رابطة ما بين الحسم الميدانيّ من جهة ومعرفة المصير من جهة أخرى. لماذا هذا الربط وبالتالي من هو المخوّل بترسيخ هذا الربط بصورة دقيقة وسريعة قبل فوات الأوان؟
ينطلق هذا الربط بدءاً من فهم دقيق عند هؤلاء بأنّ الدول الراعية للحرب على الإرهاب، لم تعد تضع قضية المطرانين في حسابها وبالأصل تلك القضية غير موجودة وقائمة في حساباتها. والعامل الثاني المكمّل للعامل الأوّل بأنّ الكنيستين المعنيتين باختطافهما قد يئستا جدا من هذا الملف ولم تعد تملك أي قدرة في تحقيق أي تواصل مع المراجع الدوليّة لفتح تحقيق في الأمر وإجراء المقتضى.
بسبب ذلك تتوجّه تلك النخب المسيحيّة إلى:
1- فخامة رئيس الجمهورية اللبنانيّة العماد ميشال عون، ليس بصفته رئيسًا للجمهوريّة اللبنانيّة فقط بل بصفته الزعيم الأوّل لمسيحيي المشرق، لكي يضع مسألة مصير المطرانين ضمن جدول أعماله واهتماماته البالغة. وهم على علم بأن القضيّة تخصّه كما تخضّه بالعمق، وهو أكثر من مرة سعى قبل الرئاسة وخلالها لمعرفة مصيرهما في ظروف كانت ولا تزال غامضة. ولكن وبما ان الاتجاه بات سالكًا نحو الحسم الفعّال على الأرض فتنتظر تلك النخب من فخامته أن يتحرّك باتجاه سوريا وتركيا وروسيا، في مداولات مكثفة، وترجو هذه النخب أن يضع فخامته هذا البند على جدول أعماله خلال زيارته المرتقبة إلى نيويورك للاشتراك في أعمال الهيئة العامّة للأمم المتحدة وإلقاء كلمة لبنان في الجمعية العامّة.
2-أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله الضنين بالحضور المسيحيّ ودوره في لبنان وسوريا والعراق لكي يدخل هذا الملفّ في عملية التفاوض والضغط وقد بات يشكّل عبئًا حقيقيًّا على مسيحيي الشرق كما على مسلميه. فوجوده على الأرض الراسخ والضارب في عمقها وتحقيقه الانتصارات الميدانية مساندًا الجيش العربيّ السوريّ من الجهة السوريّة والجيش اللبنانيّ من الجهة اللبنانيّة يسمح له بالمزيد من الضغوطات الفعالة، فكما تصرّف سماحته بواقعية مع مخطوفي إعزاز فالنخب ترجو بأن يولي هذا الملفّ عناية فائقة للغاية.
3- المراجع الإسلاميّة الراقية والعاقلة للغوص الفعليّ وليس اللفظي بهذه المسألة. لا يعني هذا بأنّ تلك المراجع هي المسؤولة، فهي شاجبة وساخطة وغاضبة. غير أنّها قد تملك القدرة بحكم علاقاتها والإمكانية بحكم تواصليّتها على تسهيل الأمور بمعرفة الواقع والتصرّف على أساسه وجلاء الغموض القاتل والعبثيّ المكتنِف لهذه المسألة، وهو مصدر قلق وجوديّ.
4- المراجع الأمنيّة اللبنانية والسورية من أجل التعاون والتعاضد في هذا الهدف، وتقترح تلك النخب بأنّ يتم استغلال مسألة البقعة الباقية على الحدود اللبنانيّة-السوريّة وإدخال ملفّ المطرانين مع ملفّ العسكريين المخطوفين في سبيل المزيد من الضغط. وترى تلك النخب بأنّ اللواء عباس إبراهيم مدير عام امن العام هو القادر على قيادة عملية الربط والوصول نحو النتيجة الملموسة والمرجوّة للجميع. ذلك أن اللواء عبّاس إبراهيم نجح في تحرير مخطوفي إعزاز وراهبات معلولا وإذا ما استطاع ترسيخ هذا الربط فهو قادر على تأمين معرفة مصير العسكريين المخطوفين والمطرانين المخطوفين.
5-دولة روسيا لكونها ترسم الحلول في المنطقة، وفي أدبياتها وادبيات كنيستها على وجه التحديد حرص شديد على مسيحيي المشرق. وعلى هذا الأساس إن دولة روسيا بما تملك من حرص وقدرة على الحسم ورعاية التسويات السياسيّة أن تعمد إلى عدم نسيان قضية المطرانين والتي تقضّ مضاجع المسيحيين بقياداتهم الروحيّة والسياسيّة. روسيا عندها القدرة والحرص على كشف خفايا هذه المسألة وحلّ ألغازها إذا رغبت بذلك.
6-البطاركة المسيحيين لكي يتشجعوا ويؤلفوا وفدًا واحدًا وموحدًّا منهم ويرسموا خطة استراتيجيّة ورؤية واضحة ويزوروا المراجع الدوليّة بصفتهم المسؤولين الروحيين عن مسيحيي المشرق ويضغطوا من باب موسكو والفاتيكان نحو معرفة مصير المطرانين.
وترى تلك النخب بأنّ تلك الاقتراحات بإمكانها أن تحفر عميقًا في الأرض الظامئة إلى ينابيع ترويها بالخبر اليقين. ذلك أن الحسم الميداني المصاحب لكلّ أنواع التفاوض بعناوينه المختلفة يجب أن يلحظ موقعًا للمطرانين بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم، ويؤخذ مصيرهما بعين الاعتبار. إنّ مسألة المطرانين مسألة وطنيّة ومسيحيّة-إسلامية بامتياز، عربية ومشرقيّة. وإهمال هذا الملفّ لا شكّ أنّه سيساهم بصورة أو باخرى باستمرار اختطاف المسيحيي المشارقة مع استمرار خطفهما.
كلّ الرجاء أن يكون فجر الجرود، فجرًا جديدًا على المشرق فيكتمل نوره مع تحرير المطرانين أو معرفة مصيرهما، فيكون للمسيحيين فجر يضيء على دنياهم ويبقيهم شهودًا وأمناء على ربهم وكنيستهم في مدى المشرق العربيّ.