كتب علي الحسيني في صحيفة “المستقبل”:
على ضفّتي المأساة التي خلّفها كشف مصير العسكريين المخطوفين لدى تنظيم “داعش”، والإنجازات التي حققها الجيش اللبناني في ميدان معركة “فجر الجرود”، والتي أفضت في نهايتها يوم أمس، إلى وضع النقاط على الحروف في مجموعة مسائل على الرغم من الأوجاع التي أرختها قضية العسكريين المخطوفين، يُمكن القول أن ما حققته المؤسسة العسكرية على مدى اسبوعين متتالين من بدء المعركة ضد الجماعات الإرهابية، هو الذي أوصل إلى الكشف عن ملف جنود ظلّوا لسنوات مجهولي المصير، وإلى إجبار عناصر “داعش” على الإنسحاب من الأراضي اللبنانية بفعل الضربات المتواصلة.
صباح أمس، أعلنت قيادة الجيش ـ مديرية التوجيه في بيان، عن “وقف لإطلاق النار إعتبارًا من تاريخه الساعة 7:00 ، وذلك إفساحًا للمجال أمام المرحلة الأخيرة للمفاوضات المتعلقة بمصير العسكريين المختطفين”. هذا الاعلان جاء بعد التوصل إلى اتفاق غير مباشر مع عناصر “داعش”، قضى بمطالبتهم بالانسحاب باتجاه الاراضي السورية وذلك بفعل الضربات والهزائم التي يتلقونها على يد الجيش منذ الاعلان عن معركة “فجر الجرود”. لكن الجيش طالب بأن يكون هذا الطلب، مشروطاً بحصوله على معلومات يُمكن الكشف من خلالها على مصير العسكريين المخطوفين، وإلا فأنه سيواصل ضرباته للجماعات الإرهابية.
إعلان عناصر “داعش” عن نيتهم الإنسحاب من الجزء المُتبقّي لهم في جرود القاع ورأس بعلبك، جاء بعد لمسهم وجود نيّة فعلية لدى الجيش، للبدء بإطلاق المرحلة الأخيرة أي الرابعة من المعركة. وكما هو معلوم، فإن قيادة الجيش كانت ترفض على الدوام، الدخول في أي مفاوضات مع “داعش” وسط اصرار على استكمال المعركة العسكرية إلى حين جلاء حقيقة مصير العسكريين المخطوفين. والمُلاحظ، أن كل إنجاز كان يحققه الجيش في الميدان ضد الجماعات الإرهابية، كان هؤلاء لا يجدون سوى أحضان النظام السوري ليستقبلهم، فكانوا يفرّون تحت وقع ضربات الجيش باتجاه الأراض السورية وتحديداً نحو عمق سيطرة النظام وحلفائه حيث المفاوضات كانت تجري بين هؤلاء، من أجل وقف المعارك.
من اليوم وصاعداً، يُمكن الحديث عن جرود لبنانية خالية من الإرهاب وعن جنود ألحقوا في أوّل بلد عربي، الهزيمة بتنظيم “داعش” الذي كان يُسيطر على مساحة جغرافية وصلت إلى حدود الـ 120 كيلومتراً مربعاً، كانت تمتد من ضهور الخنزير جنوباً، وصولاً إلى جبل الخشن شمالاً، وفي الجرود السورية من خربة حمايم شمالاً وصولاً حتى جبل الزمراني جنوباً.
مصادر عسكرية تؤكد لـ”المستقبل” أنه “تحت ضغظ النار وتضييق الخناق على داعش، ومع مواصلة اصابة اهداف ونقاط مهمة له، اضافة الى تحقيق إصابات فاقت عشرات القتلى في صفوفه، واستهداف قدراتهم القتالية، رضخ أبو السوس لشروط الجيش وطلب التفاوض”. وأبو السوس، هو لقب أمير “داعش” في الجرود اللبنانية والقلمون، واسمه الحقيقي موفّق الجربان.
وتتابع المصادر: “لذا كُلّف المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم بالتفاوض مع داعش لإعطاء معلومات تتعلق بالعسكريين المخطوفين، وحين تمّت الإجابة بالموافقة، أعلن الجيش وقف النار افساحاً في المجال للحصول على معلومات يُمكن أن توصل إلى العسكريين”، مضيفة أن “الجيش كان على أهبة الاستعداد لاطلاق المرحلة الاخيرة من معركة فجر الجرود، والقيادة كانت تنتظر إشارة من اللواء ابراهيم، لإطلاق العملية وذلك في حال كان لجأ داعش إلى المراوغة”.
العملية العسكرية التي يخوضها الجيش في مواجهة “داعش” في الجرود اللبنانية، وضعت الاخير أمام ثلاثة اختيارات: إمّا الاستسلام، وإمّا الانتحار وإمّا الانسحاب باتجاه الأراضي السوري، والمؤكد أن عناصر هذا التنظيم، قد اعتمدوا الخيار الأخير بعد مفاوضات سابقة كانوا اجروها من النظام السوري وحلفائه. وفي المعلومات المتداولة، أن عناصر “داعش” في الجرود اللبنانية، قاموا بتسليم أنفسهم إلى “حزب الله” ليل أمس لكن على الأراض السورية وتحديداً في مناطق داخل القلمون الغربي، على أن يتم نقلهم إلى دير الزور بعد كشفهم عن معلومات تتعلق بالعسكريين اللبنانيين الأسرى.
كما تضمن الاتفاق بين “حزب الله” و”داعش”، تسليم أسير و6 جثامين لـلحزب، ثلاثة منهم كانوا سقطوا عام 2014 في منطقة الكهف في جرود قارة، وهم: حسن حمادي، قاسم سليمان، فادي مسرّة، وآخرين في البادية. وبناء عليه، أعلن الإعلام الحربي التابع لـ “حزب الله” وقف إطلاق نار ابتداء من الساعة السابعة من صباح أمس “في إطار اتفاق شامل لإنهاء المعركة بالقلمون الغربي”.
في عملية توصيف للمعركة، التزم الجيش بما خطط له من اليوم الأول حتى اعلانه امس عن وقف اطلاق النار.
آثار الهزائم واضحة على الجماعات الإرهابية، فعدا عن حجم القتلى والجرحى في صفوفها وبعيداً عن تشتت وفرار معظم عناصرها في الثلث الاخير من مساحة سيطرتهم وحشرهم في ما تبقّى لهم من مساحة، فقد خلّف هؤلاء وراءهم العديد من الأسلحة والذخائر والقتلى، مفضلين الإنسحاب من الميدان الذي سيطر عليه الجيش منذ اليوم الأول لمعركة “فجر الجرود”. وما قبولهم بشروط الجيش أمس، وقبلها انكفاؤهم صوبَ المناطق الخلفيّة التي تقعُ على خطِّ التّماس مع المناطق السوريّة الخاضعة لسيطرة النظام و”حزب الله”، سوى مؤشّر واضح يدل على انهزام مشروعهم في لبنان.
نعم البلد حزين وهناك أهالي شهداء يقف خلفهم شعب بكامله، كانت تسبقهم الأمنيات لعودة أبنائهم العسكريين المخطوفين أحياء من خلف الجرود. لكن هذا الواقع المرير والمؤلم والذي لن يُمحى من ذاكرة اللبنانيين، لا يُلغي أن ثمة إنجازات قد تحققت على يد الجيش في المعركة. وليس غريباً أيضاً، أن يلتف الشعب كله حول مؤسسة منحها كامل ثقته في استحقاق هو الأوّل من نوعه منذ زمن حرب “نهر البارد”. جيش أظهر للقريب قبل البعيد، حجم قوته وصلابته ومنعته ووحدته في مواجهة أي عدوان، وبأنه قادر على حماية الوطن عندما تُمتحن الرجال. جيش يُثبت للمرة المئة بعد الألف، أنه رقم صعب لا يُمكن تخطيه، ولا يجوز وضعه في مقارنة أو “معادلة” لا تُشبهه ولا تفيه حقه أقله أمام التضحيات التي ما زال يُقدمها بصمت ومن دون منّة من أحد.