كتب ابراهيم ناصر الدين في صحيفة “الديار”:
تتجه السجالات حول ملف «غزوة» عرسال وظروف استشهاد العسكريين الى الانحسار في الايام القليلة المقبلة بعد ان سجل كل طرف موقفه من هذا الملف، وحسم رئيس الجمهورية ميشال عون النقاش باحالة القضية الى «عدالة» القضاء ليبنى على الشيء مقتضاه… ومن هنا فان «المزايدات» المتبادلة لم تعد مجدية بعد ان رسم كل فريق سقفا سياسيا وقضائيا واضحا للفريق الاخر حيال القضية، فرئيس الحكومة سعد الحريري حدد قبل ذهابه الى موسكو «خطوطه الحمراء» بزيارته الى المصيطبة، في مقابل رفع الغطاء عن «صغار» المتورطين بالاحداث، ورئيس مجلس النواب كان واضحا في مقاربته لجهة عدم «نبش القبور» وممارسة الانتقام السياسي للمرحلة الماضية، فيما قرر حزب الله «النأي» بنفسه عن القضية تاركا الملف بين يدي رئيس الجمهورية الذي تبلغ قرار الحزب عدم رغبته في «نكأ الجراح»، وتأييده لمقاربة الملف قضائيا…
في هذا الوقت ستنشغل البلاد في استحقاقات عديدة لعلها اكثرها خطورة مأزق احتمال قبول المجلس الدستوري الطعن بقانون الضرائب وما يمكن ان يترتب على هذا الامر من نتائج اقتصادية واجتماعية «كارثية»، لجهة وقف العمل «بالسلسلة» في ظل تسريبات ممنهجة من اكثر من مصدر وزاري عن وجود تفاهم ضمني في الحكومة على تأجيل دفع الرواتب وفق قانون السلسلة بانتظار تبلورالصورة النهائية لمصير الطعن..
في غضون ذلك ترك «الغزل» السياسي العلني من قبل نائب الامين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم بمواقف الرئيس الحريري، صدى على اكثر من مستوى، خصوصا مع تزامن كلامه ووجود رئيس الحكومة في موسكو، ما يؤشر الى وجود رغبة مشتركة في الحفاظ على الاستقرار السياسي والامني في البلاد، خصوصا مع تعبير اوساط في تيار المستقبل عن «ارتياحها» لهذا الخطاب الهادىء الذي يفتح المجال واسعا امام نقاشات وتفاهمات على الكثير من القضايا المشتركة، بعيدا عن الخلافات المستحكمة بين الفريقين حول الملفات الاقليمية، وتجربة التعاون في الحكومة تشكل نموذجا ناجحاً يمكن البناء عليه..
ووفقا لاوساط وزارية بارزة، فان خطوة الحزب لم تأت من فراغ ولها ما يبررها لجهة التقويم الايجابي لخطوات ثلاث قام بها رئيس الحكومة وكان لها وقع ايجابي، الخطوة الاولى تتعلق بدعمه عملية الحسم العسكري في الجرود، وكان له الموقف الحاسم في مجلس الدفاع الاعلى حين ايد قرار رئيس الجمهورية على الرغم من الضغوط الاميركية.. الخطوة الثانية ترتبط بتغطية عملية التفاوض مع «داعش»، وهو بموقفه هذا قطع الطريق على حلفائه الذين حاولوا «الاصطياد في الماء العكر» بمحاولة كيل الاتهامات للمقاومة… والخطوة الثالثة لها علاقة برده «غير المباشر» على تغريدات الوزير السعودي لشؤون الخليج تامر السبهان، من خلال تأكيده الحرص على منع الفتنة السنية الشيعية… وهذه المواقف تتجاوز ما كان حزب الله يتوقعه من الحريري الذي يقوم بمهمة الرد على «خصومه»، وبالتالي من الطبيعي ان تلاقي مواقفه ترحيبا علنيا لتشجيعه على اتخاذ خطوات اكثر تقدما…
“الضمانة” في بيروت
وتلفت تلك الاوساط الى ان الرئيس الحريري لا يملك هامشا واسعا من الخيارات في ظل التطورات المتسارعة في سوريا، وهو يدرك ان الاحداث لا تسير لصالح خياراته السياسية، وهو يحتاج الى تثبيت التسوية السياسية الداخلية التي جاءت به رئيسا للحكومة تحسبا «للمجهول» الاتي.. وهو في هذا السياق ذهب الى موسكو بحثا عن ضمانات جدية حيال طبيعة العلاقة المستقبلية مع دمشق، واذا كانت مصادره في العاصمة الروسية قد سربت معلومات تفيد بانه سيطلب من المسؤولين الروس عدم حصول تسوية للازمة السورية على حساب لبنان، فان القلق الحقيقي للحريري وفريقه السياسي يتعلق بالاجابة عن سؤال محدد حول طبيعة مرحلة «التطبيع» الحتمي مع النظام السوري، ويدرك رئيس الحكومة جيدا الثقل السياسي والعسكري الروسي في سوريا وهو يحاول استكشاف ملامح الرؤية الروسية ومدى استعداد موسكو للعب هذا الدور في المستقبل..
وفي هذا السياق، تبرز اهمية توقيت «رسالة» حزب الله الذي اراد عبر نائب الامين العام ابلاغ الحريري ان «الضمانات» التي يبحث عنها في موسكو يمكن ان يحصل عليها في بيروت، وقد سبق للامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ان اكد استعداده لتقديمها، والحزب يجدد الان تعهده لتهدئة قلق الفريق الاخر عبر ابلاغه بان «طريق» العودة عن الخيارات الخاطئة متاح «والابواب» غير مقفلة لبناء علاقة متوازنة مع الدولة السورية..
“نصائح روسية”
وفي هذا السياق، تؤكد اوساط ديبلوماسية في بيروت ان الحريري سيسمع عندما يلتقي اليوم وزير الخارجية سيرغي لافروف الاتي من زيارة الى الاردن والسعودية، كلاما واضحا وشفافا حيال التطورات السورية، معطوفا بنصيحة لمواكبة التحولات قبل ان يتجاوز «قطار الحل» «المحطة» اللبنانية ويبقى الطرف اللبناني الرسمي خارج اطار التفاهمات التي ترسم في المنطقة في مرحلة ما بعد افول «داعش».
وتلفت تلك الاوساط الى ان ثمة فارقاً جوهرياً بين ما سيسمعه لافروف من الحريري، وما سبق وسمعه في عمان، فالاردن حصل على «ضوء اخضر» اميركي للمضـي قدما في التفاهم مع موسكو كجزء من «خارطة» الطريق الروسية الاميركية للحل في سوريا، وقد استطاع الملك الاردني عبدالله الثاني تجاوز «التحفظ» السعودي من خلال حصوله على «التغطية» الاميركية لخياراته.
في المقابل لم يحصل الحريري خلال زيارته الاخيرة الى واشنطن على اشارات واضحة من الادارة الاميركية حيال التعامل مع هذه التطورات المتسارعة، وسمع فقط كلاما واضحا حيال استمرار دعم الجيش اللبناني، فيما لا يزال المسؤولون السعوديون في مرحلة «انتقالية» غير واضحة حول كيفية التعامل مع المستجدات، وليس باستطاعة رئيس الحكومة اتخاذ اي خطوة متقدمة تسبق اتضاح معالم السياسة السعودية في الملف السوري…
وفي هذا الاطار، شددت اوساط رئيس الحكومة على شمول المحادثات مسالة تسليح الجيش واعادة احياء الاتفاقات الثنائية الموقعة بين البلدين، والبحث في ازمة النازحين، وفي هذا السياق سيقترح الحريري عقد مؤتمر دولي لتنظيم عودتهم، لكن موسكو ستعيد تذكير رئيس الحكومة بضرورة التنسيق المباشر مع الدولة السورية في هذا الملف، لان الرهان على الامم المتحدة والوعود الغربية لن يحل المشكلة…
وبحسب مصادر سياسية مواكبة للزيارة فان الشق الاقتصادي سيبحثه الحريري مع نظيره الروسي ديميتري ميدفيديف حيث سيركّز على سُبل تعزيز العلاقات الثنائية، وعلى تفعيل التعاون في المجالات الاقتصادية، في ظل اهتمام موسكو بالاستثمار في قطاعات النقل، والمرافئ، والغاز والنفط في البحر، لكن احدى اكثر الامور اهمية بالنسبة للحريري تتعلق بفتح «ابواب» موسكو امامه للاستثمار في ظل الازمة المالية الخانقة التي يعاني منها، كذلك سيحاول خلال زيارته استكشاف امكانية الاستفادة من مرحلة اعادة اعمار سوريا..!
تسليح الجيش
ويبقى الاجتماع الأهم مع الرئيس الروسي فلاديمر بوتين يوم غد الاربعاء، فالبحث سيشمل التطوّرات الاقليمية والدولية، وبيد الرئيس الروسي الكلمة الفصل في مسالة «ترطيب» العلاقة مع دمشق، اما مسالة تفعيل التعاون العسكري بين موسكو وبيروت، فان السؤال في موسكو يبقى حول الموقف الاميركي من هذه المسالة، فهل لدى رئيس الحكومة «ضوءا اخضر» اميركي لتزويد الجيش باسلحة روسية، وهل «الفيتو» الذي عطل الهبة الروسيّة السابقة التي طرحت قبل سنوات لم يعد قائما؟ وهل ستسمح واشنطن للجيش بتنويع خياراته العسكرية؟