كتب ناصر شرارة في صحيفة “الجمهورية”:
قُبِض قبل أيام على «داعشي» في مخيّم شاتيلا الفلسطيني في بيروت، وذلك أثناء محاولته استئجارَ شقّة في هذا المخيّم، حيث كان متنكّراً بزيّ امرأةٍ منقّبة. وتبيّنَ من التحقيقات الأوّلية معه أنه من عناصر «داعش» الذين كانوا يقاتلون في الرقّة، وهربَ من هناك لدى بدءِ قوات «قسد» (قوات سوريا الديموقراطية) الهجوم عليها، ونجح بعد تخَفٍّ طويل في الوصول إلى لبنان.وخلال الفترة القصيرة الماضية التي اتّسَمت باحتدام معارك إخراج «داعش» من أهمّ معاقلها في العراق وسوريا ولبنان، تعاظمت حالات قبضِ الاجهزة الامنية اللبنانية على «داعشيين» تسرّبوا من سوريا ومن القلمون وجرود السلسلة الشرقية اللبنانية ـ السورية، الى العمق اللبناني ومدنِه وقراه.
وتنجح هذه الاجهزة في القبض يومياً تقريباً على أعداد من هؤلاء الذين يحاولون التخفّي متنكّرين بثياب نسوةٍ منقّبات، أو عبر لجوئهم الى أماكن بعيدة عن الأنظار، أو التظاهر بأنّهم جزء من بيئات النزوح السوري في لبنان.
ومرّةً جديدة تتسلّط الأضواء على مخيّمات النازحين السوريين في منطقة عرسال، بصفتها بيئةً لجأ إليها عناصر من «جبهة النصرة» و»داعش» بعد معركة الجرود وخلالها، وبصفتها أيضاً ملجأً لا تزال تختبئ فيه عناصر من هذين التنظيمين. ويتسرّب هؤلاء بحسب التقديرات الامنية من هذه المخيّمات الى الداخل اللبناني، وذلك على شكل خلايا صغيرة ووفق ما هو مرسوم في «الخطة ب» لـ«داعش» التي كانت «الجمهورية» قد أشارت اليها سابقاً.
والمبدأ الاساس الذي توصي به هذه الخطة، هو دعوة عناصر «داعش» وخصوصاً الصفّ الاوّل فيه، الى الهجرة من معاقل التنظيم في سوريا التي تتعرّض للسقوط بالتتالي، والتوجّه للانغماس بين جموع النازحين السوريين في دول الجوار السوري، وخصوصاً في لبنان، ليُصار بعد ذلك الى إعادة هيكلةِ البنية العسكرية لـ«داعش» بما يناسب ظروفَ الانتقال من مرحلة الوجود في الإمارة المعلنة الى مرحلة الوجود تحت الارض وتنفيذ عمليات إرهابية انتحارية ستعتمد في غالبيتها على تطبيق أسلوب «النمر المنفرد»، وهي التسمية الاصطلاحية التي تَقصَّد قائد الجيش العماد جوزف عون ذكرَها خلال خطابه في مناسبة تكريم جثامين الشهداء العسكريين في اليرزة الاسبوع الماضي، حيث اعتبَر أنّ هذا النوع من الارهابيين سيشكّل تحدّياً للأمن في لبنان في مرحلة ما بعد طرد «داعش» من معاقلها في الجرود.
وأبرزُ ما توصي به «الخطة ب» الداعشية هو أن تتكوّن بنيتها الارهابية العاملة تحت الارض من مجموعات، يتألف كلّ منها من عشرة الى 15 شخصاً، ويكون على رأس كلّ مجموعة أمير، ويتفرّع من كلّ مجموعة «خلايا صغيرة» و«نمور منفردون».
وتورد مصادر لصيقة الصلة بمكافحة مرحلة التحدّي الإرهابي المتوقع أن يشهده لبنان في مرحلة ما بعد انهيار إمارة «داعش» في سوريا والعراق، وأيضاً في مرحلة ما بعد إخراجها مع «النصرة» من معاقلهما في جرود لبنان، الملاحظات الأساسية الآتية:
ـ أوّلاً، في المدى المنظور ومن خلال درسِ حالات عناصر «داعش» و«النصرة» الذين قُبِضَ عليهم في لبنان، يتّضح بالفعل انّ قيادة الرقة الداعشية كانت قد اتّخذت قراراً بعد أن اتّضَح لها أنّ عمر إمارتها اصبَح قصيراً، بإخراج الجزء الاهمّ من عناصرها من معاقلها المعلنة للتوزّع في دولِ الجوار السوري وتحديداً بين جموع النازحين السوريين فيها.
ويلاحَظ من خلال عنصر «داعش» الذي قُبِضَ عليه في مخيّم شاتيلا، انّ اسلوب تنكّر مقاتلي «داعش» بزِيِّ المنقّبات يتمّ اتّباعه بكثرةٍ في هذه المرحلة، كأسلوب يتوخّى إحراج عمليات التعقّب الناشطة التي تنفّذها الاجهزة الامنية اللبنانية لرصدِ حراكِ تسرّبِ الارهابيين الهاربين من الجرود وسوريا الى لبنان.
ـ ثانياً، تُظهر المعلومات الاوّلية انّ اوّل اهداف «داعش» في لبنان، ضمن سعيِها لتدشين مرحلة ما بعد تفكّكِ اماراتها، هو شنُّ هجمات انتحارية ضد الجيش اللبناني، وايضاً ضد تجمّعات إحياء طقوس عاشوراء التي أزفَ موعدها هذه السنة، والتي يُحييها الشيعة اللبنانيون كلّ سنة في كلّ مناطق وجودهم.
ـ ثالثاً، في مجال سعيها الى وضع «تقدير موقف» علمي عن إمكانات الجماعات الارهابية في المرحلة الجديدة، تُبرز المصادر المعنية بهذا الملف معطيات اساسية عدة تُظهر أنّ هذه الجماعات تعاني من ضعفٍ بنيوي يَجعلها عاجزةً عن فتحِ معركة ارهابية موجعة في لبنان تحقّق لها هدفَ استدراك هزيمتها الاستراتيجية التي منِيت بها في كلّ دول المشرق العربي:
يُركّز المعطى الاوّل على انّ «داعش» و»النصرة» تمرّان حالياً في مرحلة ضمور وفقدان الزخم، سواء داخل محازبيهما المباشرين او بيئاتهما الحاضنة.
فالعنصر الذي يُقتل او ينسحب من التنظيم لا يمكن تعويضه بسهولة، علماً أنّ هذه المشكلة لم تكن موجودة لديهما في المرحلة الماضية، حيث كانت طوابير الراغبين في الانتساب اليهما تقدَّر بالألوف على مدار كلّ شهر. في مقابل ذلك تجذّرَت تجربة التنسيق الى حدّ التكامل بين الاجهزة الامنية اللبنانية في شأن مكافحة الارهاب.
وهذه ميزة تضيف الى حرب لبنان الاستباقية سواء ضد نسخة «داعش» في «زمن الإمارة» أو ضدّها الآن في «زمن العمل تحت الارض»، قدرةً كبيرة على كسبِ المعركة ضدّ الارهاب. ومعلوم هنا أنّ أهمّ ما تعاني منه دول الغرب على جبهة مكافحة الارهاب هو ضعفُ منسوبِ التنسيق الامني الكامل بين أجهزتها الأمنية، الأمرُ الذي تستغلّه الجماعات الارهابية للنفاد منه.
أمّا المعطى الثاني فهو الوضع السياسي الداخلي اللبناني المحصّن، أقلّه تجاه ملفّ الإرهاب، حيث لا يمكن المقارنة بين هذه المرحلة وتلك التي اعقبَت احداثَ 7 أيار عام 2008، حينها كان هناك كثير من فجوات التباعد بين القوى السياسية في لبنان، أمّا الآن فإنّ هذه الفجوات تقلّصَت في خصوص كثير من القضايا الساخنة، كما أنّها أصبحت موحّدة على مستوى مقاومة الارهاب.
ومن المهم، في نظر المصادر عينها، إبقاءُ الموقف اللبناني من مكافحة الارهاب ضد لبنان واستتباعاته، محلّ اتّحاد، لأنّ هذا الأمر يعَدّ عاملاً رئيساً يساعد على النجاح في المعركة المتوقّعة ضد «داعش» و»النصرة» في مرحلة ما بعد تشَظّيهما إلى خلايا صغيرة و»نمور منفردة» تحاول أن تضرب في لبنان.