بريجنسكي يهودي اميركي من أصول بولونية، والمهم أنه ساهم بقوة في رسم استراتيجية جديدة لبلاده في عزّ الانقسام العالمي بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي، والحرب الباردة التي كانت قائمة بين معسكريهما.
يومها وضع بريجنسكي استراتيجية «تفتيت» الاتحاد السوفياتي من دون التورّط في الحروب معه والمجازفة بدمار شامل، وارتكزت رؤيته على إسقاط الامبراطورية السوفياتية من الداخل وليس محاربتها المكلفة من الخارج عبر إحياء العصبيات والأصوليات الدينية، لتشكّل «الأفيون» القادر على تخدير القوة الشيوعية من الداخل والتحضير لتفكيكها لاحقاً.
ولم تكن مصادفة أن تتصاعد في تلك الحقبة النزعات والعصبيات الدينية الاسلامية والمسيحية واليهودية، والتي كانت تضطهدها الآلة الأمنية الشيوعية المرعبة.
في تلك الحقبة، وصَل البابا يوحنا بولس الثاني البولوني الذي أطلق من موطنه الأم الثورةَ المسيحية على الحكم الشيوعي، ما أدّى لاحقاً الى زعزعته. وفي الحقبة عينِها، سقط شاه إيران لتصبحَ معه إيران جمهورية إسلامية.
وفي العام 1979، دفَعت موسكو بجيشها الى أفغانستان، حيث بدأ المسار التصاعدي للأصوليات السنّية وولادة تنظيم «القاعدة» لاحقاً. بالطبع ليست واشنطن من خلقَ هذه العوامل، لكنّها بالتأكيد ساهمت في إيجاد الأجواء الملائمة وإنضاجها.
ومبدأ بريجنسكي لم يمت مع تفكّكِ الاتحاد السوفياتي وزواله عام 1991، بل جرى استنساخه في المشروع القاضي بتفتيت الدول العربية من دون التورّط في حروب مباشرة ومكلفة. ومن خلال ترؤسّه مؤسسة اسمُها «رائد» للدراسات، قدّم النصائح الى الإدارات الاميركية المتعاقبة، بدءاً من جورج بوش الإبن ووصولاً الى باراك اوباما الذي شهدت ولايته الأولى ما عُرف بـ«الربيع العربي» على أكتاف التيارات الإسلامية.
وكان لافتاً ما قاله اوباما في جنازة بريجنسكي بأنه كان واحداً من رؤساء كثيرين استفادوا من حكمة بريجنسكي ومشورته، وأنّ أفكاره ساعدت على تشكيل سياسة الأمن القومي الأميركي لعقود عدة.
أمّا مناسبة هذا الاستذكار، فهو الترتيب الجديد الجاري وضعُه للشرق الأوسط واستخدام السياسة نفسِها حتى في أماكن أبعد من الشرق الاوسط.
ففي خضمّ النزاع الكبير ولكن المكتوم الدائر بين الولايات المتحدة الاميركية والصين، الدولة التي باتت تهدّد فعلياً الزعامة الاقتصادية والمالية لواشنطن على العالم، سلّط الإعلام الاميركي فجأةً أضواءَه على أزمة مسلمي الروهينغا في ميانمار، البلد الذي يَحظى بحدود مشتركة مع الصين.
ففي الإعلام الاميركي، تركيز على ضحايا «صدام الحضارات» بما يُشبه الانصياع لتوجيهٍ ما من خلف الكواليس.
والأهم أنّ إظهار المأساة الحاصلة في ميانمار بحقّ الأقلّية الإسلامية جعلَ منها قضية إسلامية عالمية، ما دفعَ بتنظيم «القاعدة» لدعوة الموالين له إلى السفر الى ميانمار ودعم الروهينغا.
و«القاعدة» الذي يسعى إلى إعادة فرضِ صورته كأوّل تنظيم «جهادي» مستفيداً من الضربة القاضية الجاري توجيهُها الى «داعش» في سوريا والعراق، يريد تكثيفَ عملياته لاستعادة حضوره العالمي.
في المقابل، فإنّ «داعش» الذي يحاول العودةَ الى العمل تحت الارض، يتّجه أيضاً الى تلك البقعةِ من العالم مستفيداً من عشرات «المجاهدين» الايغور الذين قدموا من الصين، والذين «نجحوا» في الفرار من الرقّة ودير الزور وعادوا الى الصين كادرات إرهابية اكتَسبت خبرةً كبيرة، وقادر كلُّ واحد منها على إنشاء مدرسته الخاصة به في بلد يحوي 120 مليون مسلم، وسيُعاني كثيراً من قضية مسلِمي الروهينغا.
وكان لافتاً أن تعمد الصين الى إصدار سندات خزينة بملياري دولار اميركي، وهو الرقم الاكبر في تاريخها، وهي للمرّة الأولى تصدر سندات بالدولار الاميركي منذ العام 2004، في وقتٍ تعاني واشنطن من كوريا الشمالية التي تحظى بحماية بكين.
وفي آخِر التقارير الدولية، فإنّ داعش» الذي سينتقل لتعزيز عملِه تحت الارض في العراق وسوريا ولبنان والشرق الاوسط، يتطلّع الى صحراء سيناء ومصر والفيلبين والصين وأفغانستان مع قدرة على الاستمرار في ليبيا.
المهم أنّ خدمات «داعش» الارهابية ستبقى لفترة لا بأس بها في الشرق الاوسط الجديد الجاري تركيبُه على انقاض «الدولة الداعشية».
وفيما يتّجه التنظيم الى خسارة حضوره الكامل في الرقة ودير الزور، تسعى القوى المختلفة الى تحقيق أهدافها واقتناص الجزء الاكبر من إرث «داعش». وإذا كان التسابق يدور في الظاهر بين واشنطن وموسكو وطهران وأنقرة ودمشق، فإنّ إسرائيل ليست أبداً بعيدة.
ففيما تعلن واشنطن أنّها لن تسمحَ للجيش السوري بعبور نهر الفرات في دير الزور، فإنّ طهران تُدرك أنّ طريقة السيطرة على دير الزور تفوق أهمّية الانتصار الذي تحقَّق في حلب.
وصحيح أنّ طهران وأنقرة تلتقيان هذه الايام على تقاطعات عدة مهمّة، من بينها منعُ الاكراد من تحقيق دولتهم، إلّا أنّ هذا التحالف الاستراتيجي هشٌّ، حيث تقوم تركيا ببناء حائط أمن على حدودها مع ايران منعاً لحصول اختراق محتمل من خلال الأكراد الذين يوجد منهم ثمانية ملايين في إيران وخمسة ملايين في تركيا.
أضِف الى ذلك ما يقوله الباحث الأميركي الشهير دانيال بايبس عن أنّ التبادل التجاري الكبير بين البلدين لا يحجب استمرارَ العداوة بينهما، حيث لأنقرة مخطّطات أيديولوجية في القوقاز وآسيا الوسطى، وهي مناطق تَعتبرها طهران مناطقَ حيوية لها.
من هذا المنظار، لا بدّ من مقاربة السباق الحاصل على تثبيت النفوذ في دير الزور، حيث تريد طهران تأمينَ الطريق البرّي كأولوية مطلقة لا تتقدّمها أولوية اخرى.
وفيما ترَكت واشنطن هذا البند الى مرحلة التفاوض الاخيرة بينها وبين طهران، دخَلت اسرائيل على الخطّ وقصَفت طائراتها من خلال الأجواء اللبنانية للتعبير عن دورٍ لها ورفضِها تأمينَ الطريق البرّي لإيران.
وتتّكئ اسرائيل ليس فقط على قدرتها الجوّية والتي تحظى بعدم معارضة موسكو وفق شروط محدّدة، بل أيضاً على تحالفِها المتين مع الأكراد وحضورهم الميداني القوي.
وفي موازاة ذلك، تُضاعف الحكومة الإسرائيلية ضغطها على البيت الأبيض والكرملين لتحقيق مطالبها. وربّما أنّ ما يقلِق الرئيس دونالد ترامب المحاصَر والقلِق داخلياً، ما أظهرَه آخِر استطلاع للرأي من أنّ 77 في المئة من اليهود الاميركيين لديهم آراء سلبية تجاهه على رغم أنّ الـ21 في المئة من اليهود الاميركيين الذين يؤيّدونه هم من المتشدّدين والمتعصّبين.
كلّ ذلك يُنبئ بأنّ الفصلَ الأخير من الحرب المفتوحة في سوريا قد يكون الأكثرَ صعوبةً، وأنّ المعارك قد تجري معاودتها في إدلب رغم ضمّها منذ أيام الى مناطقِ خفضِ التوتر، فترسيمُ مناطق النفوذ يحتاج إلى الإجهاز على بعض القوى وشطبِها نهائياً من الخريطة في سوريا.
ما يَعني أيضاً أنّ «خدمات داعش» الارهابية قد تكون مطلوبةً في العراق وسوريا، وحتى لبنان، تمهيداً لإنتاج هلال بنفوذ شيعي ولكنْ يضمّ مناطقَ مفروزة على أسسٍ مذهبية وطائفية وإثنية وقابلة لأن تتولى وظيفة «استنزاف» قوّة الدول الاقليمية الكبرى. لكنّ هذه الكيانات الطائفية أو المذهبية أو الإثنية ستبقى داخل الحدود المرسومة لها حالياً. حدود لا وجود لها سوى على الورق والخرائط، لكنّها فعلياً غير قائمة وغير حقيقية.
على أمل أن يَعيَ بعضُ اللبنانيين أنّ مقاربة المشكلات السياسية بسطحية وبعناوين عامة ومسطّحة، هي أسرع طريق لإنتاج مزيد من المآسي، وتاريخُنا غنيّ بالمحطات المؤلمة والنتائج المأسوية، ولكن من دون أن نتّعظ أو نتعلّم.