كتب فراس الشوفي في صحيفة “الأخبار”:
لم يكن وجود إرهابيي «داعش» و«جبهة النصرة» على الحدود بين لبنان وسوريا، سوى الذريعة المناسبة لـ«إحسان» أميركي وبريطاني تجاه الجيش اللبناني واللبنانيين لإنشاء شبكة من الأبراج على طول الحدود اللبنانية السورية، تحت عنوان «مكافحة الإرهاب» وضبط الحدود. تماماً، كما كان «الإرهاب» الذريعة المناسبة للعودة الأميركية إلى العراق تحت مظلة «التحالف الدولي» في عام 2014، بعد الانسحاب الأميركي من بغداد نهاية عام 2010، أي قبل ثلاثة أشهر من بدء الحرب على سوريا.
لطالما بقيت الحدود السورية ــ اللبنانية، منذ استقلال الكيانين، مفتوحة لحركة دخول وخروج الأفراد والبضائع الخفيفة، عبر التسلل أو عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية. وهذه الحركة، وإن كان منسوبها يرتفع ويخفت بحسب الظروف السياسية والاقتصادية في البلدين، إلّا أن طبيعة الحدود وتلاصق القرى والمدن على الجانبين (من وادي خالد وتلكلخ وسهل عكار وطرطوس والهرمل والقصير، إلى بعلبك وعرسال والزبداني وقرى القلمون الغربي، وصولاً إلى حاصبيا وراشيا وقرى جبل الشيخ على مقلبه السوري)، تحتّم مثل هذه الحركة، في ظلّ الارتباط العضوي الحياتي بين سكّان الحدود، وعلاقات القربى والمصاهرة ووجود مواطنين لبنانيين داخل القرى الحدودية السورية وسوريين داخل القرى الحدودية اللبنانية.
وكما استفادت المقاومة اللبنانية وبعض فصائل المقاومة الفلسطينية وحلفاء سوريا على مختلف انتماءاتهم من إمدادات السّلاح السوري عبر الحدود، تحوّلت الحدود المفتوحة بين البلدين في عدّة مراحل تاريخية، إلى عبء على سوريا، مع استغلال بعض الجماعات اللبنانية وجماعات معارضة لسوريا منذ خمسينيات القرن الماضي، الحدود، للعب بالأمن السوري وتهديد أنظمة الحكم في دمشق.
ولم ينسَ السوريون واللبنانيون بعد كيف فتح تيار المستقبل الحدود في بداية الأزمة السورية، لتصير ممرّاً للسلاح والإرهابيين نحو الداخل السوري، إلى قلعة الحصن وتلكلخ والقصير وحمص والقلمون الغربي وبيت جنّ، وكيف عادت طرابلس في 2011 إلى اسمها الحقيقي، أي «طرابلس الشام».
1559 واستهداف الحدود
لبنان هو خاصرة سوريا في الجغرافيا والديموغرافيا، واليد التي تُؤلم أي نظام حكم في الشام، في حال استخدام الكيان الصغير ضد المصالح السورية أو دفعه نحو التمرّد. ولمّا استطاعت سوريا في الحرب الأهلية اللبنانية وبعدها، مدّ جسور تحالف متينة مع فئات لبنانية، ولا سيّما مع المقاومة، أتى القرار الدولي 1559 في عام 2004، في محاولة لتطويق سوريا وحلفائها في لبنان، استكمالاً لعملية التطويق من الشرق العراقي بعد احتلال بغداد في نيسان 2003. وجاء الـ 1559 كلبنة أولى في مشروع الفصل العسكري والسياسي بين لبنان وسوريا في «الشرق الأوسط الجديد» الذي بشّرت به وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس، بعد عقدين من «وحدة المسار والمصير» في الأمن والسياسة، في الحرب… والسلم.
وقبيل عدوان تمّوز على لبنان في 2006 وذروة الهجوم الغربي والعربي واللبناني على سوريا وحلفائها، واتهامها باغتيال الرئيس رفيق الحريري، صدر القرار الدولي 1680 في 17 أيار 2006، الذي استهدف بشكل مباشر الحدود بين سوريا ولبنان، طالباً من سوريا ترسيم الحدود بين البلدين، كقرار مكمّل للـ 1559. إلّا أن حبر هذا القرار لم يكن قد جفّ بعد، حين شنّت إسرائيل حرباً مدمّرة على لبنان بهدف القضاء على المقاومة، لتنتهي الحرب بعجز إسرائيلي عسكري عن تحقيق الأهداف، لكن بقرار دولي سياسي رقمه 1701، يهدف إلى تقييد عمل المقاومة في الجنوب، ويدعو أيضاً الحكومة اللبنانية إلى ضبط حدودها الشمالية والشرقية، بهدف قطع خطوط إمداد المقاومة وفصلها عن عمقها الاستراتيجي، سوريا.
المشروع البريطاني ـــ الأميركي
في عام 2009، وفي ظلّ انقسام سياسي كبير في لبنان بين حلفاء سوريا وأخصامها، بدأ الجيش اللبناني تشكيل فوج الحدود البرية الأول، ومهمّته الأساسية مكافحة التهريب على الحدود بين لبنان وسوريا في منطقة الشمال، ومقرّه شدرا، في تنفيذ واضح للقرار 1701. وفي عام 2011، بدأ تشكيل فوج الحدود البريّة الثاني، ومقرّه رأس بعلبك، لضبط حركة التهريب في الحدود الشمالية الشرقية. وكذلك جرى تشكيل فوج الحدود البرية الثالث ومقرّه الحالي أبلح، وينتشر بين شمال منطقة المصنع وجنوبها، وصولاً إلى راشيا. كما أعلن السفير البريطاني في لبنان هيوغر شوتر في كانون الأول 2015، نية بريطانيا دعم الجيش بـ 10 ملايين دولار، لتشكيل فوج الحدود البرية الرابع. وتقول مصادر غربية معنيّة إن «بريطانيا تكلّفت حتى الآن ملايين الدولارات لدعم الأفواج البريّة، وقريباً ستستثمر أميركا حوالى 100 مليون دولار جديدة في هذا المشروع». وبحسب مدير التوجيه في الجيش العميد علي قانصو، فإن «مهمة أفواج الحدود البرية هي ضبط الحدود من عمليات التهريب بين لبنان وسوريا، وهي تستكمل انتشارها على طول الحدود من الشمال، وصولاً إلى ما قبل مزارع شبعا». ويقول قانصو إن «هذه الأفواج هي حرس حدود مثل قوات الهجانة السورية التي ترابط في الطرف المقابل، أما على الحدود مع فلسطين المحتلّة فينشر الجيش اللبناني وحدات مقاتلة أخرى وليس حرس حدود».
إلّا أن الدخول البريطاني على خطّ دعم أفواج الحدود، بدأ خريف عام 2012، وكانت شرارة انطلاقه إحباط الجيش السوري عملية تسلّل لمجموعة إرهابية كبيرة من شمال لبنان باتجاه الداخل السوري، عرفت لاحقاً باسم «مجموعة تلكلخ» (سقط معظم أفرادها في كمين للجيش السوري). وتزعم المصادر الغربية أن «تسلّل تلكلخ دفع بريطانيا إلى التفكير بدعم الجيش اللبناني وحماية الحدود، عبر تزويده بمجموعة من الأبراج بهدف مراقبة الحدود». وأُحضرت قبب الأبراج الثلاثة الأولى من بريطانيا، وهي من مخلّفات القوات البريطانية في إيرلندا الشمالية، حيث كانت تستخدم لمنع تسلّل مقاتلي الجيش الجمهوري الإيرلندي عبر «الحدود». أما الأبراج الأخرى، فبدأ تصنيعها في لبنان بإشراف بريطاني.
وحتى أول آب 2014، تاريخ اجتياح إرهابيي «داعش» و«جبهة النصرة» بلدة عرسال، كانت بريطانيا قد أنشأت 12 برجاً للجيش، تمتدّ من شدرا، وصولاً إلى عرسال. وقبل أيام، كشف شورتر بعد زيارته قائد الجيش العماد جوزف عون، أن «المملكة المتحدة تساعد على تدريب 11 ألف جندي لبناني، وبناء أكثر من 20 قاعدة عمليات متقدّمة، و30 مركزاً لمراقبة الحدود». تقول المصادر الغربية إن «وجود البرج في عرسال في آب 2014 حمى مجموعة كبيرة من الجنود، وصمدوا داخله لحين وصول قوات دعم لهم». وهذا الرأي استكمال لما نشرته صحيفة «التيليغراف» البريطانية في تشرين الثاني 2014 عن أن «أبراج بريطانيا حمت بلدتي رأس بعلبك والقاع من الجهاديين»! إلّا أن الوقائع العسكرية أثبتت أن اجتياح هؤلاء «الجهاديين» لعرسال وتسلل مجموعات انتحاريين منهم إلى بلدة القاع جرى في ظل تلك الأبراج، وأن الحرب التي خاضها الجيش السوري وحزب الله ضد إرهابيي «القاعدة» و«داعش» في القصير والقلمون الشرقي والغربي والسيطرة بالنار على طريق شبعا ــ بيت جنّ في جبل الشيخ، منذ عام 2013، وصولاً إلى تحرير جرود عرسال ومعركة «إن عدتم عدنا»، و«فجر الجرود» التي خاضها الجيش اللبناني، هي ما حوّلت الحدود السورية ـــ اللبنانية إلى منطقة آمنة، منهياً بذلك وجود إمارة متطرفة تبحث عن ممرّ بحري على شاطئ المتوسّط.
وتقول مصادر ميدانية معنيّة إن «انتشار الجيش اللبناني على الحدود اللبنانية السورية، في ظلّ وجود الجماعات الإرهابية في الداخل السوري، كان سيحوّل الجيش إلى هدف دائم وسهل لاعتداءات الإرهابيين ولن يحول دون دخولهم إلى لبنان، مع وجود خلفية عسكرية استراتيجية لهم في الداخل السوري».
الأبراج الثلاثة الأولى هي من مخلفات الحرب على الجيش الجمهوري الإيرلندي
وفيما تقول المصادر الغربية إن «هدف دعم أفواج الحدود هو منع التهريب بين البلدين وحفظ استقرار لبنان»، تقول مصادر رفيعة المستوى في قوى 8 آذار إن «هناك أجندة مختلفة للبريطانيين والأميركيين عن أجندة الجيش». وتضيف أن «الجيش يقوم بواجبه في حماية الحدود، بينما يريد الغربيون من هذا المشروع تثبيت الفصل الجغرافي والسياسي بين لبنان وسوريا». وتشرح المصادر أن «الهدف هو فصل المسارات السياسية والعسكرية بين سوريا ولبنان عبر رصد طرق إمداد المقاومة وحصارها، وتحويل الجيش اللبناني إلى جيش من القوات الخاصة التي تفكّر في مكافحة الإرهاب فقط، على غرار الجيش الأردني وقوات البيشمركة في إقليم كردستان». وترى أن «تقييد حركة الجيش بالتسليح من طرف واحد، يهدف إلى حرف الجيش عن قتال إسرائيل، وهذا الأمر تتنبّه له قيادة الجيش، وفي كلّ مرّة يؤكّد العماد جوزف عون على عقيدة الجيش اللبناني في العداء لإسرائيل».
ولدى سؤال المصادر الغربية عن السبب في عدم دعم الجيش لحماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية، وبدل ذلك تزويده بأسلحة بدائية لمواجهة جماعات مسلحة، وليست نظامية، تزعم المصادر أن «هناك تفكيراً، لأول مرّة في الدوائر الغربية، لمساعدة الجيش اللبناني بأسلحة لردع إسرائيل، بعدما بات لدى الجيش ثقة بنفسه في معركة الجرود». وتقول مصادر قوى 8 آذار إنه «لا ثقة بكلام الدول الغربية حول تسليح لبنان لمواجهة إسرائيل، إنما الهدف هو إيجاد شرخ بين المقاومة والجيش، والقول للبنانيين إنه لم يعد هناك من داعٍ لسلاح المقاومة طالما أن الجيش قادر». وتضيف أنه «بانتظار تمكّن الجيش من مواجهة إسرائيل، فإن الحلّ يبقى بالاستراتيجية الدفاعية التي تعمّدت بثلاثية الجيش والشعب والمقاومة».
هواجس من اختراق بريطاني لكاميرات الأبراج
تتحفّظ مصادر المؤسسة العسكرية عن ذكر عدد الأبراج المنتشرة. إلّا أنها تشرح لـ«الأخبار» أن «الأبراج هدفها ضبط الحدود بالإشراف على المعابر وحماية الجنود داخلها»، مشيرةً إلى أن «الأبراج مؤلّفة من طبقات، وتتسع لعدد كبير من الجنود، وهي مزوّدة بكاميرات نهارية وليليّة ومراصد إلكترونية للأفراد والآليات، وكذلك بالأسلحة المناسبة للتعامل مع أي تسلّل على الحدود». وتضيف أن «الكاميرات تنقل المعلومات إلى غرفة العمليات في قيادة الجيش». وتتصل الأبراج بعضها بالبعض الآخر للحصول على رؤية كاملة للحدود، بحيث تبدأ رؤية البرج التالي من حيث تنتهي رؤية البرج السابق، وتستطيع أجهزة الأبراج رصد مسافات طويلة، تصل إلى حد الـ 20 كلم.
إلّا أن الإشراف البريطاني ــ وأخيراً الأميركي ــ على المشروع، يثير الشكوك من أن يكون الطرفان يستفيدان من الرصد الذي تؤمّنه كاميرات الجيش. فعلى سبيل المثال، يطلّ برج بلدة «قنافذ» في الهرمل على كامل المنطقة المتّصلة بالقصير السورية وعلى منطقة «الجعافرة» وعلى معابر حوش السيد علي ومحيطه. وكذلك يطل أحد الأبراج في مشاريع القاع على معبر جوسيه الرسمي والمنطقة المحيطة. ومع أن المقاومة طوّرت أساليبها للتغلّب على الرصد الجوّي بالطائرات المسيّرة والأقمار الصناعية، الذي يقوم به العدو الإسرائيلي وحلفاؤه الغربيون، إلّا أن الرصد البرّي يبدو مقلقاً في حال استفادة الأميركيين والبريطانيين منه. وفيما تؤكد المصادر العسكرية اللبنانية أن «الجيش هو الطرف الوحيد الذي يستفيد من الرصد والاستطلاع الذي توفّره الأبراج»، إلّا أن الهواجس من التفوّق التقني الأميركي والبريطاني تدفع أكثر من جهة للسؤال عن مدى حصانة هذه المنظومة، والقدرة على منع الأميركيين والبريطانيين من اختراقها وهم الطرف المصنّع لمعداتها. وهناك شكوك من أن تكون الصور والمعلومات التي ترصدها الأبراج، تنتقل إلى البريطانيين بدورها وليس إلى غرفة عمليات الجيش فحسب، وخصوصاً في ظلّ ما يحكى عن قيام خبراء أميركيين خلال معركة حزب الله ضد «النصرة» في جرود عرسال، بتعطيل عمل طائرات «scan eagle» الأميركية المسيّرة التي يملكها الجيش، اعتراضاً على مساعدة الجيش لحزب الله، عبر ضرب إرهابيي «النصرة» الفارين من المعارك، فضلاً عن إمكانية احتواء بعض الأبراج على أجهزة تنصّت على الهواتف والاتصالات، في لبنان وسوريا معاً.