كتب ناصر شرارة في صحيفة “الجمهورية”:
توجد ثلاث بيئات فلسطينية في المشرق العربي، هناك، حالياً، سباق في شأنها بين الحل «البارد» لأوضاعها عبر إبرام تسويات فيها، وبين «الحل الحامي» عبر اجتراح معالجات عسكرية لها.البيئة الاولى هي مخيم اليرموك في دمشق، والثانية هي مخيم عين الحلوة، والثالثة هي قطاع غزة الذي تبرز فيه حالات الجماعات الارهابية، والمتصل ديموغرافياً بشمال سيناء معقل طيف واسع من الارهابيين.
الرابط بين هذه البيئات الثلاث هي انها موجودة الآن إقليمياً ودولياً تحت مجهر السؤال الآتي: كيف يمكن تنقية جسد اللجوء الفلسطيني – واتصالاً به ايضاً بيئة قطاع غزة – من تغلغل الارهاب داخله والذي علق به بفعل الاحداث في سوريا؟
ووقائع الإجابة عن هذا السؤال، حسب ما تتداولها كواليس أمنية وسياسية معنية بهذا الموضوع، تسلّط الضوء على المعطيات الاساسية الآتية:
أولاً – لوحظ أخيراً انّ ادارة الرئيس دونالد ترامب تتحرك في اتجاه إنضاج ترتيبات بدء مسار مفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين.
ويواجه هذا المسار في هذه اللحظة اعتراض الرئيس الفلسطيني محمود عباس على المقترح المشترك الذي قدّمه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتيناهو والبمعوثين الثلاثة الذين أرسلهم ترامب الى المنطقة، ويقضي بتقسيم مناطق الضفة الغربية الى ثلاث:
ـ المنطقة أ، تحت السيطرة الادارية والامنية الفلسطينية.
ـ المنطقة ب، توجد فيها سيطرة أمنية مشتركة بين السلطة والفلسطينيين.
ـ المنطقة ج، توجد فيها سيطرة اسرائيلية. ويتجاوز هذا المقترح قضية الدولتين الذي تقول به واشنطن علناً، الأمر الذي دفع عباس الى رفضه، وقاد ترامب، رداً على هذا الرفض، الى الهمس إقليمياً عن إمكانية استقالة عباس.
ثانياً – مبادرة القاهرة التي رعت عقد لقاءات مصالحة بين حركتي «حماس» و«فتح» بطيفيها عباس ومحمد دحلان، هدفت الى تمهيد المسرح الفلسطيني ليصبح مؤهلاً للدخول ضمن رؤية موحدة في مفاوضات مع اسرائيل. وهدفت ايضاً الى إخراج «حماس» من شبهة علاقتها ببيئات اسلامية متشددة تعمل في سيناء وفي سوريا واستتباعاً في لبنان.
وهذا ما يفسّر مباشرة «حماس» أخيراً تصعيد إجراءاتها ضد المجموعات الدائرة في فلك تنظيم «القاعدة» داخل قطاع غزة، وايضاً انخراطها المتزايد في الجهود الفلسطينية المنسقة مع الدولة اللبنانية، والمبذولة داخل مخيم عين الحلوة لإنهاء وجود الجماعات الارهابية في داخله، سواء عبر تسوية او عبر حل أمني او عسكري، او حل مُركّب من كل هذه الخيارات.
وأحدث المعلومات عن انعكاسات دور «حماس» الجديد على الوضع في مخيم عين الحلوة، تشير الى انّ الحركة اتصلت قبل ايام بفصائل المخيم لتسويق مبادرة تؤدي الى إيجاد حل لمشكلاته مع الارهاب والدولة اللبنانية عبر خيار «الحل البارد».
وتطلق حماس على مبادرتها إسم «خطة التفكيك»، وقوامها تصنيف البيئات المطلوبة للدولة اللبنانية داخل المخيم الى مستويات مختلفة والتعاطي مع كل واحدة منها على حدة، حيث يصار الى جذب البيئات التي لا دماء على أيديها الى تسويات للالتحاق بالنظام العام في المخيم.
وحتى البيئات المصنفة إرهابية يمكن من منظار خطة «حماس» تصنيفها الى اكثر من مستوى، فهناك مجموعات لا يوجد لها حالياً نشاط معاد ولكن سبق للدولة ان صنّفتها إرهابية، مثل «عصبة الانصار»، وهناك عناصر عملت مع جماعات إرهابية ولكن ليس على أيديها دماء ويمكن التعاطي معها بأسلوب الاقناع واستيعابها من خلال تلبية حاجاتها المعيشية… وهناك بيئات جذبتها عقائدياً طفرة صعود «داعش» و«النصرة»، وهذه ايضاً يمكن إيجاد وسائل لتوعيتها وتحسين ظروفها الحياتية عبر سلسلة تقديمات ومشاريع صغيرة.
أضف الى المطلوبين للدولة اللبنانية بوثائق إطلاق نار في المناسبات وما شابه، وهؤلاء يمكن تسوية أوضاعهم قانونياً. وتتضمن خطة حماس أيضاً نوعاً من «ماريشال صغير» في عين الحلوة (أي تمويل الاستقرار)، وذلك مقدمة لعزل بيئة الارهابيين الخطرين من «داعش» و«النصرة» وما يشبههما داخل المخيم، لتجنيبه الدخول في تجربة شبيهة لِما حصل في مخيم نهر البارد.
واللافت انّ «خطة التفكيك» (تمويل الاستقرار وعزل الارهاب) التي تطرحها «حماس» في عين الحلوة، تطرحها في قطاع غزة بالتشارك مع التيار الاصلاحي في فتح الذي يتزعمه محمد دحلان، حيث الأخير يموّل بالاعتماد على إمكاناته واموال عربية، عمليات تحسين البنية التحتية للقطاع وترميم معبره المتصل بمصر، وإنشاء كثير من المشاريع المنتجة في منطقته، ليصبح معبراً تجارياً إنمائياً ومتنفّساً اقتصادياً لغزة، بدلاً من بقائه معبراً مهملاً اقتصادياً، وتستغله الجماعات الارهابية للتسلل بين القطاع وشمال سيناء.
ثالثاً – بات واضحاً انّ وضع مخيم عين الحلوة انتقل في ظل التطورات الاخيرة الحاصلة على مستوى الساحة الفلسطينية (المصالحة بين حركتي «فتح» وحماس) وعلى مستوى التوجّه الاميركي والدولي لتحريك مسار التفاوض الاسرائيلي ـ الفلسطيني، من مرحلة انه أزمة داخلية لبنانية ـ فلسطينية، الى مرحلة انه إحدى ساحات ترتيب وضع البيت الفلسطيني في الداخل والشتات بغية تأهيله لدخول المفاوضات مع اسرائيل.
والأمر نفسه يجري في قطاع غزة، وايضاً في مخيم اليرمرك الذي بدأت مقدمات إخراج «داعش» منه، وإعادته الى حضن المصالحات الوطنية التي تجريها الدولة السورية، وليس الى حضن مناطق «خفض التوتر» كما كان مقرراً سابقاً التي تقيمها روسيا بضمان ايراني او ايراني ـ تركي. قبل عشرة ايام كان الاتجاه في «حي القدم» المتصل بمخيم اليرموك هو ان يتم ضمّه الى منطقة خفض التوتر في الغوطة الشرقية.
وكان ينسّق هذا الامر «جيش الاسلام» الموجود في الحي مع موسكو، ولكن قبل ايام انشَقّت جماعة «حي القدم» عن «جيش الاسلام»، وأطلقت على نفسها تسمية «مجاهدي الشام»، ونسّقت مصالحة مع النظام ستفضي الى إخراج المسلحين منه، والتمهيد لبدء تسوية مخيم اليرموك (يوجد فيه «داعش») التي تحرص الدولة السورية في هذه اللحظة على ان يكون قراره في يده، لأنه يشكل عنواناً لمادة اللجوء الفلسطيني في سوريا، ولأنّ الامساك بورقته من دمشق سيجعل الدوليين يحتاجون الى توقيعها حلاً لفلسطينيي الشتات